وحيد بن بوعزيز: التحليل الجوّاني للنصوص والانفتاح على التداولي والتأويلي والثقافي


فئة :  حوارات

وحيد بن بوعزيز: التحليل الجوّاني للنصوص والانفتاح على التداولي والتأويلي والثقافي

وحيد بن بوعزيز: التحليل الجوّاني للنصوص والانفتاح على التداولي والتأويلي والثقافي

تمهيد

الدراسات التي تنشغل بمسائل النقد الثقافي في مختلف تشكلاته المعرفية بدأت تطفو على سطح الفكر العربي المعاصر، وهذا نتيجة طبيعية لمسار بحثي تشكل أولاً في ربوع الأدب، ثم رحل ثانياً جهة العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبعدها تقاطع مع المدارس الفلسفية، مشكّلاً بذلك درباً جديداً في المقاربات الحداثية، فهو في جوهره عوالم رحبة وثرية بالمعاني والدلالات التي ما زالت حبلى بالتأويلات وصراعاتها الخفية والمعلنة، وفي هذا السياق تتنزل أعمال الباحث الجزائري الدكتور وحيد بوعزيز، ضمن رؤية تسعى وبصورة حريصة إلى تعميق دراساته عبر ترحاله الدائب والمستمر في النصوص باللسان العربي واللسان الفرنسي، إلى البحث عن مسار معرفي ينشغل فيه بمسألة التراكم المعرفي داخل أفق النقد الثقافي.

ويمكن أن نستعرض بعض المنجزات الفكرية لباحثنا:

ـ حدود التأويل، قراءة في مشروع أمبرتو إيكو النقدي، الدار العربية للعلوم، دار الاختلاف، لبنان، 2008.

ـ الأسلوب المتأخر، (ترجمة لنص إدوارد سعيد حول أدورنو) ضمن كتاب جماعي حول الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو، الدار العربية للعلوم مع دار الاختلاف ودار الأمان، لبنان/المغرب، 2010.

ـ إشراف وإعداد وتقديم لكتاب جماعي يحمل عنوان ثقافة المقاومة، يصدر عن الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية.

ـ جدل الثقافة دراسات في النصوص ما بعد الكولونيالية، دار رؤية القاهرة، 2016.

ربوح البشير: نرحب بك إلى هذا الحوار، دكتور وحيد.

من الملاحظ أنّ الدراسات الفكرية تتقاطع مع المسار الحياتي للباحث، كيف يرى الدكتور وحيد بن بوعزيز هذا التلاقي؟

د. وحيد بوعزيز: في البداية أشكركم على هذا الحوار، وأشكر كلّ من ساهم في إعداده. حينما نطل على الدراسات النقدية نلاحظ أنّ سيرورة هذا الحقل المتشعب قد مرّت بعدة براديغمات نتيجة التحاقل مع بنى فكرية وثقافية واجتماعية. لكنّ أهم ما جعل الكثير من أقراني يهتمون بالفكري والفلسفي والثقافي، هو التهافت الإبستمولوجي للنزعة الشكلانية الرافضة لكل ما هو سياقي وبراني عن النص. حينما شرعت في إعداد رسالة الماجستير في التسعينيات كنت تحت وطأة المنهج السيميائي الغريماصي، وكنت محظوظاً أنّني درست على يد أساتذة تلقوا هذا العلم مباشرة من مصدره الأول، حينما طبقت مقولات مدرسة باريس تبين لي أنّ هنالك خللاً ونقصاً رهيباً يعتور النص إذا ما اعتمدنا مفاهيم نسقية مثل الانعكاس الذاتي والمحايثة والحقيقة النصية، ووصلت إلى نتيجة مفادها أنّ التحليل الجواني للنصوص يفتقر إلى فتح النص على ما هو تداولي وتأويلي وثقافي. وبدأت البحث في أصول النظريات ونسبيتها التاريخية والأنطولوجية، فدرست التفكيك والتأويل والتداولية بغية تدارك النقص الذي تداركه كبار النقاد البنيويين من أمثال جيرار جونيت ورولان بارت وتزفيطان تودوروف.

ربوح البشير: ما موقع نصوص أمبرتو إيكو في هذا التفكر الغربي؟

د. وحيد بوعزيز: يشكل لي الناقد والروائي الإيطالي الكبير أمبرتو إيكو طوق نجاة من الغموض الفكري الذي كنت واقعاً فيه بعدما غيرت وجهتي من البنيوية إلى البحث عن مناهج أخرى، فبدأت أهتم كردة فعل بمقولات التفكيك التي وجدت فيها منتجعاً فكرياً وحرية مطلقة في التعامل مع النصوص الأدبية، فعلى الرغم من أنّ جاك دريدا ينطلق دائماً من مقولته الأساسية لا يوجد شيء خارج النص إلا أنه لا يختزل هذا الأخير في مبدأ الانغلاق المحايث، بل يستعير مفهوم السيميوزيس اللامتناهية من الفيلسوف الأمريكي بورس، ويبلور مفهوم اللعبة الحرة، فيصبح النص عبارة عن إعادة إنتاج لا متناهية تكشف عن تناقضات الحقيقة وتعري ميتافيزيقا الحضور. لم يدم هذا الاهتمام بالتفكيك كثيراً لكي أشعر بأنّ هنالك نزعة عدمية قاتمة تتوارى خلف أسيجة الفلسفة التفكيكية. إنّ دريدا فيلسوف كبير وأضاف للفكر العالمي إضافة نوعية، ولكن شعرت كثيراً بأنّه على الرغم من قوة مقولاته التفكيكية إلا أنّ سياقنا العربي يسير في اتجاه آخر تماماً. لقد نجح التفكيك في حضارة وصلت إلى قمة العقلانية التقانية، عقلانية تقانية امتازت بتغلغلها في كل زوايا الوجود الإنساني وطالت كل ميادين الحياة، فيعتبر التفكيك في هذه الحالة محاولة لنسف هذه العقلانية التي تعتبر سليلة العقلانية الإغريقية ذات المنزع الأفلاطوني الذي يحترم الحضور والصوت ويحط من الغياب والكتابة، يرفع اللوغوس ويحط من الغريزي والجسد. حينما نحاول استعارة هذه المفاهيم في ثقافتنا التي تعيش على هامش هذه الحضارة لا بدّ أن نتفهم الأمر على أساس هل ينجح التفكيك لو طبق مثلاً كبراديغم بالمعنى الذي طوره توماس كوهن على العصور الوسطى؟ بمعنى آخر هل كانت شروط إنتاج التفكيكية متوفرة في القرون الوسطى؟.

فعلاً لا ننكر أنّ الكثير من المثقفين العرب طبقوا بعضاً من مفاهيم التفكيك على الثقافة العربية، السؤال الذي لا بدّ من طرحه: هل نجح هؤلاء في الذهاب بعيداً بالتفكيك، هل ابتكروا مفاهيم؟ هل كانت هنالك عملية تبيئة في هذا الحقل، أم أنّ الخطاب لم يتجاوز فقط لعبة التموقعات التي تحدث عنها كثيراً بيير بورديو؟ فبين دوغمائية البنيوية وغيتو التفكيك اكتشفت إيكو الذي ينحدر من نزعة تؤمن بالانفتاح الذي له حدود كغيره من المؤولين الكبار. استطاع إيكو أن يكتشف أزمة البنية قبل بارت وجماعة تل كيل Tel Quel، ولعل الوحيد الذي سبقه إلى ذلك هو ميخائيل باختين حينما ردّ على ما يسميه بالموضوعية المجردة مفنداً ما كتبه دوسوسير. لم يقبع إيكو عند أطراف المسألة بل راح يفتح مقولات النص على الفلسفة التحليلية بالعودة إلى فيتغينشتين (مفهوم اللعب) وسيرل وكارناب، ويفتحها على التداولية الأمريكية والتأويلية الإيطالية، لم يتوقف إيكو لمتابعة أصول النظريات المعاصرة عند سواحل الفكر الغربي المعاصر بل نجده عاد إلى الفكر اليوناني الرواقي والقرون الوسطى باستلهام الأوغسطينية والإكوينية والرشدية اللاتينية والمعلم إيكهارت.

هذا الباغراوند ساعد إيكو على مناقشة النزعات الفلسفية المعاصرة، بما فيها التفكيك، مناقشة تنطلق من أعرق الأصول، لهذا لا نتعجب، خلال مناقشته لدريدا، يردّ التفكيك إلى الفلسفة الغنوصية التي كانت سائدة في القرون الوسطى، ويصل إلى نتيجة خطيرة مفادها أنّ التفكيك ما هو سوى علمنة للتصوف اليهودي الذي كان يُسمّى بالقبالاه.

إنّ العودة إلى إيكو تعلمنا أنّ مقولة القارئ لا بدّ أن تكون أكبر وأهم بكثير من مقولة النص، لهذا فهو يؤمن إيماناً قوياً بتعدد التأويلات وانفتاحها، ولكن لا يفكر في هذا الانفتاح على مصراعيه، بل يضع له حدوداً ضامنة ذات طبيعة نصية. يتموقع إيكو بين النصي والتفكيكي، فهو يفتح النص لكي يتجاوز الدوغمائية البنيوية ويضع له ضامناً لكيلا يقع في الشراك والغيتو التفكيكي. يعد إيكو النص آلة كسولة تحتاج من يساعدها على التمظهر، إنّ هذا التمظهر الذي يُعدّ من طبيعة فينومينولوجية تأويلية يطال كلّ المستويات النصية من الفونيم إلى غاية ما يُسمّى الآن بالنقد الثقافي.

ربوح البشير: هل يمكن أن نتحدث عن مساحات للتلاقي بين الأدب والفلسفة؟

د. وحيد بوعزيز: تشكلت علاقة بين الأدب الفلسفة منذ القدم، وإنّ فن الشعر أو البيوايتيقا الذي نجد له فقط في العربية أكثر من ثلاث ترجمات معاصرة وبعضاً من الترجمات والشروح القديمة يبيّن أهمية ما نذهب إليه. لم يكتفِ سقراط وأفلاطون وأرسطو بالتفكير في المثل والمنطق والأخلاق والعبارة، بل فتحوا تفكيرهم على التخييل والمحاكاة والتراجيديا والملحمة والأميبيا التي كانت سائدة في عصرهم.

منذ القدم شكل الأدب بالنسبة إلى الفلاسفة هاجساً كبيراً، لأنّ الفن بقوته التخييلية دعا هؤلاء إلى التفكير في حدود وممكنات التفكير الفلسفي، إنّ التصوير الفني يساعد الفلسفة على تقعيدها وأرضنتها وكَوْنَنَتِهَا. لهذا نجد واحداً مثل جيل دولوز ينحت مصطلحاً مهماً هو الشخصيات المفهومية، لكي يبين أنّ الفلسفة لابدّ أن تسردن ذاتها لكي تكتمل صياغة المفاهيم التي تُعدّ جوهرية في بناء شبكتها الاصطلاحية. إنّ هذا الأمر بغاية الأهمية، وإلا لماذا يحتاج فيلسوفان مثل ابن سينا وابن طفيل كي يكتبا حي بن يقظان، وفيلسوف مثل نيتشه كي يكتب هكذا تحدث زرادشت؟

حينما نعود إلى الأزمنة الحديثة نلاحظ أنّ مارتن هيدغر رأى في الفن والأدب منقذاً من تبعات العلموية، كان هذا الفيلسوف يعد العصر التقاني بمثابة طبيعة ثانية يحتاج إلى مساءلة وبحث دؤوب لإنقاذ الكينونة، قال في دراسته حول الشاعر الألماني هولدرلين: إنّ الشاعر هو كلب القافلة، يبدو هذا الكلام بمثابة تجريح للشاعر، ولكن حينما نقرأ المقولة في سياقها نفهم أنّ المقصود يكمن في أنّ الشاعر هو منقذ الإنسانية من نسيان كينونتها L'oubli de l'être فإنسان الأزمنة الحديثة يعيش حالة من الاستلاب وحالة من السقوط بسبب مكننة الوجود، لا يصبح الشاعر في هذه الحالة حادياً للقافلة بل كلبها، لأنّ القافلة حينما تغير مسارها بسبب دواعي الترحال تصبح الكلاب بمثابة مؤشر على نسيان شيء أم لا.

إنّ اختيارنا لهيدغر في هذا المقطع من الكلام لا يعني أنّه الوحيد في الساحة، بل هو امتداد لتراث رومانسي ضارب بأطنابه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فإذا كان هيدغر يعتقد أنّ الفن والأدب مطية لاسترجاع الكينونة المنسية فإنّ نيتشه الذي كان له وقع خاص على هيدغر يعتبر الوجود بمثابة استعارة ولا يوجد شيء خارج هذه الاستعارة، فكلّ شيء يتمفصل وفق إرادة القوة، وكلّ إيمان باللغة هو سذاجة كبيرة، لأنّ الحياة عبارة عن أليغوريا كبيرة. استطاع نيتشه وهو المعادل الموضوعي لفكر فلسفي ذي طبيعة رومانسية أن يصبح لسان حال كلّ الفكر الذي يرى أنّ الطريق الصحيح لا يكمن في أنسنة الطبيعة بل يعود إلى طبعنة الإنسان. فجوهر الإنسان لا يكمن في القيم واللوغوس بل يكمن في الطبيعة والغريزة. اللغة في هذا السياق لا تغدو بمثابة وعاء للعالم أو عاكسة له بل هي موهمة بهذا العالم، لأنّها تتخيله وفق الأهواء. إنّنا أمام أفلاطونية مقلوبة سيطلق عليها فيما بعد المصطلح المشهور ثقافة الجسد. لم يعد الفن عند نيتشه، خاصة الفن التراجيدي، تابعاً وظلاً وهامشاً كما كان في العصور القديمة، بل أصبح أصلاً، لأنّ التراجيديا هي التجلي الحقيقي للعدم ولموت الإله.

عندما نفهم ما قاله نيتشه وهيدغر حول الوظيفية الخطيرة التي خولت للفن عموماً والأدب خصوصاً نكتشف أنّ الفلسفة استعارت الفن ملاذاً لإنقاذ الكينونة ولفهم التحولات الأكسيولوجية. فعندما راح لوكاتش يبحث عن علاقة تحولات الذات الإنسانية بالتحولات التاريخية بلور مفهوم التشيؤ الذي جعله من أكبر نقاد ضياع القيمة في القرن العشرين، فلم تسعفه الكثير من المقولات الفلسفية لكي يكتشف جوهرانية هذه التحولات، فعاد إلى الأدب، وعلى الخصوص الرواية.

لقد حافظ لوكاتش منذ كتابة نصه الأول "نظرية الرواية" إلى غاية نصوصه عن الجماليات على وتيرة واحدة تكمن في السؤال التالي: لماذا ضاعت الكليّة La totalité في الأزمنة الحديثة؟ وكان الجواب عبارة عن دراسة أجناسية قرأت الأدب قراءة فلسفية، فالملحمة نتاج لواقع غير معقد تستطيع فيه الذات الانسجام مع عالمها، أمّا الرواية فهي نتاج واقع معقد فقدت الذات فيه هذا الانسجام مع عالمها، لأنّها تفتقر إلى الكليّة، ويعود سبب هذا الاختلال والاختلاف إلى تشكلات المعنى الميتافيزيقي وافتقاده. فالذات في الملحمة تؤمن بوجود آلهة لهذا فهي تضفي معنى على العالم، أمّا الذات في الرواية فهي إن لم تصدق وجود الآلهة فهي لا تستطيع أن تجد لها حيزاً من الوجود، يقول لوكاتش في الأخير الرواية هي ملحمة بدون آلهة.

إذا كان لوكاتش آخر من آمن بقدرة الفن على إنقاذ الفلسفة والكينونة عموماً، فإنّ الأمر لم يسر وفق الطرق الطبيعية، لأنّ السؤال الذي سيطرح فيما بعد: هل سينجو الفن رغم طبيعته المتعالية من مخالب الأيديولوجية التقانية؟ إنّ المفهوم الذي سيبلوره تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر حول صناعة الثقافة يبين أنّ الفن الذي يُعتبر ذا طبيعة سالبة بدأ يفتقد سحره واختلافيته في عالم تغمره تقننة الوجود.

إنّ الدراسة التي قام بها أدورنو حول الجاز بينت أنّ الفن لم يعد كافياً في دورة اقتصادية، تعد نتاج العصر التقني تمتص كلّ تناقضاتها، لهذا لا بدّ أن نطرح الآن سؤالاً آخر عن قيمة الفن والأدب كقوة سالبة في عصر يعيش على ما يسميه هربرت ماركوزه بتهدئة الكينونة. الشيء نفسه اكتشفه والتر بن يامين، فيلسوف آخر مؤمن بالأدب، ففي مقاله المشهور "العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج التقاني" راح يبين أنّ الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يرجع للعالم طقوسيته وسحريته أصبح سجيناً لمخالب العصر التقاني، فبينما كان الإنتاج مركزياً في عصور غابرة أصبح ثانوياً في عصرنا الذي أصبحت فيه إعادة الإنتاج قيمة للعمل الفني، لقد دخلت الأعمال الفنية في دورة اقتصادية عتية كانت وبالاً على روح العمل الفني. بسبب غلبة النزعة الاقتصادية وتربعها على قمة العرش فقد الفن هالته والأورا التي تكلم عنها كثيراً والتر بن يامين، وفعلاً لو عدنا إلى الواقع فسنجد أنّ الاستنساخ المليوني للوحة الأجوكاندا أفقدها تلك الهالة التي جعلتها لوحة فنية متميزة وفريدة من نوعها.

في السياق نفسه يطرح "ياوص" ناقد مدرسة كونستانس السؤال نفسه، هل مازال الفن مطية لإنقاذ الوجود من براثن التقننة والمكننة؟ حينما يدرس المسألة يتبين له أنّ الفن يفتقد سالبيته بمجرد الانغراس تحت وطأة المنظومة الطباعية والنشرية. لماذا افتقدت رواية مدام بوفاري ردة الفعل نفسها التي ولدتها حين صدورها الأول، لماذا حينما نتلقى الآن نصاً جرّ صاحبة إلى المحاكمة لا نشعر بالقوة السالبة نفسها، ولا نعتقد بأنّه سيخلخل السلطة. لقد أفضى هذا الامتصاص لكلّ ما هو ضدي في العصر الحديث إلى تهدئة الكينونة وتهميش الثورة، وجعل العالم تحت رحمة قمع جديد أخطر من التقليدي، لأنّه ببساطة ما سمّاه هربرت ماركوزه بالتسامح القمعي La tolérance répressive.

ربوح البشير: ما المكاسب التي يحققها النص الأدبي من الفلسفة؟

د. وحيد بوعزيز: طبعاً لا يمكن أن نتوقف فقط عند حدود استفادة الفلسفة من الأدب، بل يمكن أن نفكر في العكس كذلك، واسمح لي أن أكون عنيفاً نوعاً ما مع كتابنا وأدبائنا، لأنّ المسألة ليست متعلقة بمكاسب بل هي متعلقة أساسا بأنّ العمل الأدبي لا بدّ أن يكون حاملاً لرؤية عميقة وفريدة تؤهله لكي يكون مختلفاً وحاملاً لما يسميه دولوز توقيعاً ما. إنّ مفهوم تقسيم العمل جرى مجراه في ثقافتنا العربية، وكأنّ الأديب ليس مطالباً بأن ينفتح على الفلسفة مثلاً وعلم الاجتماع والتحليل النفسي، لأنّ الأمر ليس من اختصاصه. حينما نتطلع إلى الروايات العالمية والشعر العالمي نجد كلّ هذه الأعمال حبلى بوجهات نظر ورؤى مكتملة، لهذا لم يستطع واحد من النقاد الفلاسفة وهو لوسيان غولدمان أن يفهم النصوص الأدبية خارج أطر ما يسميه برؤية العالم، فحينما قرأ أعمال راسين اكتشف أنّ هذه النصوص تعبر عن رؤية جماعة من الجانيسيين في سياق بداية التفكير النهضوي والتموجات الديكارتية. فالإله الخفي بنية مستترة كانت تؤمن بها فلسفة من طبيعة دينية إصلاحية. يبقى أنّ أهم ما جاء به غولدمان هو أنّ الرؤية ليست ذات طبيعة طبقية بل هي ذات ميزة جماعية.

لا ننكر بأنّ الكثير من الأدباء العرب المعاصرين بلوروا رؤى للعالم عميقة، من أمثال محمد إقبال وجبران وأدونيس ونجيب محفوظ ومحمد ديب وكاتب ياسين، ولكن يبقى الكثيرون من الكتاب العرب سجيني الكتابة الباروكية التي تشتغل على اللغة أكثر ممّا تشتغل على الدلالة.

بعض الكتاب يمكن أن يبرروا ذلك بأنّ أساس النص هو الحسي والجمالي وليس المعنوي، لهذا تراهم يكتفون بالوقوف جمالياً عند حدود الكتابة بالاشتغال على البياني والاستعاري، أفهم هذا الاتجاه، ولكن حينما يصبح الروائي يكتب في السنة أكثر من ثلاث روايات بطريقة جميلة لغوياً وفارغة من الرؤية أرى أنّ الأمر حالة مرضية وليست صحية.

لقد اختار جيمس جويس هذا الاتجاه، ولكنه حمّل كلّ جملة من نصوصه فلسفة أو رؤية جعلت النقاد يغيرون مفهوم العالم الروائي بالمعنى الكوسمولوجي، فبعدما كان هذا العالم المتخيل من طبيعة أوقليدية أو نيوتونية تحول مع جويس إلى عالم بالمعنى الآينشتيني للكلمة؛ أنا لا أطلب من كتابنا أن يصبحوا مثل جويس بالضرورة، وحبذا ذلك، ولكن لا بدّ من التذكير بأنّ النصوص النحيفة فلسفياً يمكن أن تخلق نشازاً وقرفاً من الأدب عموماً. من جهة أخرى لا يعني هذا الكلام أنّ الفلسفة بالمعنى الصارم والأكاديمي لا بدّ أن تتخلل الأدب، بل لا بدّ التفكير في الفلسفة تفكيراً مختلفاً، لهذا نشعر حينما نقرأ تشيكوف بأنّه لا تكاد تخلو قصة من قصصه أو مسرحية أو رواية من قضية فلسفية.

ربوح البشير: هل نستطيع أن نشهد ميلاد حركة فلسفية داخل الأفق الأدبي؟

د. وحيد بوعزيز: لقد كتب الناقد الفرنسي بيير ماشري عن المسألة في كتابه المهم بمَ يفكر الأدب؟ فعلاً يمكن تواجد حركة فلسفية داخل الأدب، ولكن ليس بالمعنى التقليدي للفلسفة، فالنيتشوية التي تُعدّ فلسفة ذات كتابة شذرية تتنابذ مع الكتابة الأكاديمية المعروفة، تُعدّ سليلة الفكر والأدب الرومانسي، بل تُعدّ تطوراً طبيعياً لذلك داخل سياق الثقافة الغربية. من جهة أخرى يمكن للفلسفة أن تتواجد في كنف الأدب حينما تتخذ خيار التجربة النقدية، فكما يقول تيري إيغلتون يستطيع الأدب أن يحوّل التجربة الحياتية إلى طبيعة كما يستطيع النقد أن يحول النص الأدبي إلى طبيعة أخرى أو طبيعة من درجة ثانية. إنّ النزعة النقدية حينما تتلاقح مع الفكر الفلسفي تمكن من تواجد حركات فلسفية في كنف الأدب وليس حركة واحدة.

ربوح البشير: كيف تمّ الانتقال من الدرس التأويلي لإيكو إلى الدرس الكولونيالي لإدوارد سعيد؟

د. وحيد بوعزيز: حينما طبقتُ نظرية أمبرتو إيكو اخترت نصاً مركزياً موضوعاً للدراسة هو نص "صحراء" لجون ماري غوستاف لوكليزيو، ومقاربة مقارنة لصورة الصحراء من منظور صوراتي، تتبعت التعضيدات النصية في كلّ المستويات، ولكن حينما وصلتُ إلى المستوى الثقافي لم تسعفني في البحث عن الأنساق المستترة والمرئية إلا نظرية إدوارد سعيد كما عرضها في كتاب الاستشراق الذي كان كتاب توصيف ورصد للبنى بين الثقافية. استفدت من إدوارد سعيد مفهوم التمثلات الخطابية ومفهومه عن أنّ الاستشراق الرمزي أو التخييلي ساهم بدوره في بناء شرق مغربن، ولم يحاول بل لا يستطيع أن يخلق شرقاً شرقياً بالمعنى الحقيقي للكلمة، بسبب ما يسميه تدخلات السجل Le répertoire المتحكمة في بنية الإحالات. طبعاً بسبب هذه المفاهيم الحصيفة عرّجت على قراءة الكتب الأخرى لإدوارد سعيد، وكانت سعادة لا تقدر حينما اكتشفت معه عالماً مترامي الأطراف من المناهج والنظريات التي تصبّ فيما يُسمّى الآن الدراسات الثقافية والكولونيالية وما بعد الكولونيالية.

ربوح البشير: هل يمكن أن تتأسس دراسات ما بعد كولونيالية عربية مثل نظيرتها الهندية على يد غياتاري سبيفاك وهومي بابا؟

د. وحيد بوعزيز: إنّ العرب مثل الهنود مرّوا بالتجربة الاستعمارية نفسها مع اختلاف نسبي، ولكن لا بدّ أن نذكر بأنّ دراسات التابع كما تتجلى عند رناجيت جحا وسبيفاك والنظرية ما بعد الكولونيالية كما نجدها عند هومي بابا لا تعبّر بالضرورة عما يرتجيه العرب من هذه الدراسات للاختلاف التاريخي ولمقتضيات المستقبل. لهذا سأبوح لك بأنّ العرب يمكنهم أن يطوروا دراسات ما بعد كولونيالية بطريقة أخرى بالاستفادة من أخطاء مؤسسيها في الهند أو في أستراليا أو في أمريكا الجنوبية. لقد انزاحت هذه الدراسات عن مسارها، حسب رأيي، عندما اعتمدت على مقولات ما بعد الحداثة ضاربة بالمقولات الثورية عرض الحائط. إنّ ريموند وليامز الذي يُعدّ واحداً من المؤثرين في هذه الدراسات يكتشف في آخر حياته أنّ النزعة النصية التي تُعدّ أساسية في التفكير ما بعد الحداثي كانت وراء فشل هذه الدراسات، ولكي أدللّ على ذلك أقول لك إنّ إدوارد سعيد اعترف بنقص نظرية الخطاب التي اغترفها من فوكو لهذا راح يعوضها بغرامشي، هومي بابا اعتقد، وهذا اعتقاد خاص، بأنّه حرف فرانز فانون حينما قرأه قراءة تفكيكية لأنّه أفرغه من أهم عنصر في فلسفته وهو التاريخ والثورة، سبيفاك حاولت أن تقرأ التابع قراءة عجيبة حينما أرادت التوفيق/التلفيق بين الماركسية والتفكيكية.

ليس شرطاً أن أستعيد كلّ تلك المقولات لأنّ لي تراثاً هائلاً من الكتابة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية لم يلتفت إليه هؤلاء، لقد كتب مالك بن نبي وله نظرية في ذلك، كما كتب مصطفى الأشرف وعبد المالك صياد، ولا اعتقد بأنّ سوسيولوجياً مثل بيير بورديو الذي ترك مفهوم الاستئصال يمكن أن يمرّ مروراً دون الاستفادة منه في بلورة نظرية في الدراسات ما بعد الكولونيالية انطلاقاً من تجربة المغرب العربي مع الاستعمار، خاصة وأنّ إخفاقات هذه الدراسات تكمن في أنّها تفتقر إلى قاعدة سوسيولوجية ميدانية تعوّض مفهوم التمثل بمفهوم الفعل.

ربوح البشير: ما القضايا التي يشتغل عليها الدكتور وحيد بن بوعزيز في المستقبل؟

د. وحيد بوعزيز: أحاول الآن قراءة الفكر المنتقد للإمبراطورية بالتفتح على ما كتبه أنطونيو نيغري وتيري إيغلتون، كما أحاول التفكير في الاشتغال على مسألة الاعتراف والاعتذار والغفران، فالمسألة طرحت كثيراً فلسفياً عند أكسل هونيت وريكور وجونكليفيتش ودريدا، ولكن من الناحية التطبيقية في مسألة الجزائر وتاريخها الاستعماري مع فرنسا تبقى بعيدة المنال، لأنّ هذه الأمور قبل أن تسترجع سياسياً لا بدّ أن تسترجع ثقافياً. ويندرج كلّ هذا في سياق قد يبدو عجيباً، ولكن أوافق تماماً الروائي النيجيروي وول سوينكا من أنّ الاعتراف والاحترام يبدأ حينما تعترف الإمبراطورية بأخطائها وتردّ للمستعمرات القديمة تعويضات مادية ورمزية. شكراً لكم.

ربوح البشير: شكراً جزيلاً على هذا الحوار المنفتح.