ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
132
2016 )9(
العدد
*
سري نسيبة
. شهدت البلدان العربية في العقد الأخير تقلباتسياسية ومجتمعية حادّة أودت بما كان يشبه حالاً من الاستقرار، وطفتعلى السطح
1
مظاهر عنفية مختلفة تنذر جميعها باندثار عهد قديم واستبداله بمستقبل غير واضح المعالم حتى اللحظة، ويثير هذا الوضع دونما شك القلق
لدى المواطنين، ليس فقط بسبب ما يحصل، وإنما أيضاً بسبب جهل ما سوف تؤول إليه الأمور. ولأنّ الإنسان بطبعه يستكين للعادة
والاستقرار، وينظم أفكاره وحياته على أنّ غده سوف يشكل استمراراً لحاضره، فإنّ قلقلة الحاضر المعاش وانيار الأمن والأمان تدعوه
إلى مراجعة ذاته والتشكك في مكوناتها، ومن ذلك مقارنة حاله بحال الآخر، أو مع حالٍ آخر في تاريخه هو، معتبراً أنّ حاله هذا استثناء
أو اعوجاج لم يكن ليحصل لو لم يتغلغل فيه أثر معد من الخارج، أو مرضكامن فيه منذ تكوّنه. فيكثر الحديث اليوم عن عدو خارجي أو
دين معوج يجب تقويمه أو التحرر كليّاً منه، أو نظم سياسية بائدة أو خصائصجينية في تكوين العربي، وليست موجودة في غيره، تحوله
عن التمدن والحضارة بمكوناته الذاتية، ويحتاج بسببها إلى إطار تنظيمي سماوي (دين) لتنظيم معاشه بشكل حضري (ابن خلدون).
والجامع لهذا كله هو التحول الجاري من حال الأمن إلى حال الاقتتال وتشبيه الأخير بالهمجيّة وانيار أركان الحضارة (وممّا يخطر على
البال فيما قد يخطر في هذا السياق ـ إلى جانب مسالخ البشر والتمثيل بالجثث - تدمير الأبنية الأثرية في تدمر وغيرها).
وبما أنّ هنالك مداخل مجدية عديدة لتحليل الوضع المشار إليه، بما في ذلك البعد البشري العام، وما لا يخص العرب وحالهم اليوم، فما
سوف أتناوله في مداخلتي هذه وأحاول تسليط الضوء عليه هو ذلك البعد المتعلق بمفاهيم الحضارة والهمجيّة بشكل عام، متحرّياً من
خلال ذلك أن أخلص إلى حجر أساس لمنظومة أخلاقية تكون هي المرجع والمعيار الرئيس الذي يمكننا اعتماده حين نميز بينهما. إذ ممّا لا
شك فيه أنّ تمييزنا هذا هو تمييز قيمي وليسوصفياً فقط، وأنّنا عندما نقدم على استعماله فإنّما نع ّعن دلالات أخلاقية منها الإيجابي ومنها
السلبي. وقد نختلفحديّاً فيما بيننا بخصوصهذه الدلالات كرفضالبعضمنا مثلاً التفريق بين الأفعال الوحشية التي يرتكبها أعضاء
داعشوتلك التي يرتكبها جيش نظامي، فقد نصف الأولى بأنّا همجيّة وتمثل الشر بأوضح معانيه، ثم نرفضرفضاً باتاً أن تكون هنالك
مقاربة ما بينها وبين حرب نظامية، أو بينها وبين سيطرة قسية يمارسها نظام على شعبه أو على شعب آخر، بل قد يصف بعضنا الأخيرة
بأنّا خير في ظروف معينة، كما قد توصف بعض الحروب أنّا خير، أو أنّا عادلة، وباختصار فإنّنا نختلفحول ما هو خير وما هو شر،
وحول ما إذا كانتهذه صفاتطبيعية أو وضعية أصلاً، وقد نختلفونتشككفي الأمرعند قيام دولة تدّعي الحضارة بشن حربهمجية
على أخرى، وتشكل مجموعة هذه الأسئلة سبباً مشروعاً لاستيضاح هذه المفاهيم، لعل ذلك يساهم ولو مساهمة متواضعة في تمكيننا من
اجتياز هذه المرحلة المتخبطة من تاريخنا العربي، حيث تتضارب القيم ويختلط الغثّ بالسمين، وكما قد تشكل محاولتنا هذه مدخلاً جديداً
لاستنباط مبدأ عقلي لمنظومة أخلاقية عامّة نحن أحوج ما نكون إليها كبوصلة تساعدنا في التفكير السليم.
ولا تأتي هذه المداخلة بسبب نقصفي النظريات الأخلاقية عموماً ـ كيف نميز الخير من الشر أو نقيم الحجج لإسناد هذه النظرية أو
تلك - فالنظريات حدسية كانت أو عقلية أو طبيعية أو غيرها متوفرة في الأدبيات ذات العلاقة، وإنّما تحفز التفكير فيها، ولربما بشكل
الحضارة والهمجيّة:
الاستنباط العقلي من العلاقة بينهما
مفكر وأكاديمي من فلسطين.
*




