ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
136
2016 )9(
العدد
الطبيعية» للبشر (كما أورد ذلك الفلاسفة) لا يمكن استبدالها بأخرى تختلفجذرياً إلا بالاستئصال، أي بإعادة حالة الرعب إليها، ومن
ثمّ إدارتها إلى حين، تمهيداً لبناء منظومة بديلة عنها هي المنظومة الخلافية، فيكون الهدف هو هذا الأخير والوسيلة هي الإرهاب. وكذلك
فالدولة التي تهاجم أخرى للسيطرة عليها قد تفعل ذلك بمنتهى العقلنة، والإنسان الذي يسق مال غيره، أو يغتصب امرأة أو يقتلها،
أو يفجر مقهى أو مبنى مدنياً بكامله، إذ ليس من سمات العقل تحديد قيمة أخلاقية بعينها (ولو كانت هذه من سماته لما اختلف الخلق
على توصيف الأفعال قيمياً)، بل سمته الرئيسة البرمجة الميكانيكية لتحقيق مطمع مقصود أو هدف منشود، فلا يسعف المعترض إذن
أن يستعين بالعقل على هذا المستوى الأولي للتمييز أخلاقياً بين نوع من الضرر وغيره، وهذا الأمر هو الذي يشدنا إلى النظر في إمكانية
الاستعانة بالعقل لاستنباط معادلة أو مبدأ عن طريق التدقيق في معنى الهمجيّة، يمكننا بعده من تحديد قيم إنسانية معينة يمكن الاتفاق
عليها، فإذا ما دققنا النظر في ما نستهجنه وننفر منه بالأساس فسوف نجد أنّ المعنى الأبرز للهمجيّة أو الوحشيّة لدى الحيوانات المفترسة
هو اللامبالاة المطلقة للألم الذي يسببه أحدها للآخر، وهذا إذن هو ما يمكننا اعتماده أوليّاً كدليل عقلي للأمر الذي ينفرنا من الفعل
الهمجي، أخذاً بالاعتبار أنّ ذلك الفعل يقع في عالم لا يمكن التمييز فيه بين مذنب وبريء، أو بين محق ومعتدٍ، أو بصورة أعمّ بين ما هو
خير أو شر، فاعتماد قيمة بذاتها أو مبدأ آخر في ذلك العالم أمر مردود على أصله، ولن تسعفنا أيّ منها في تحديد معنى الهمجيّة أساساً إلا
إذا أتينا عليها لاحقاً، وبعد أن نكون قد استوفينا التحقق من الحد الفاصل للفعل الهمجي. فتكون اللامبالاة المطلقة للألم أو الضرر أو
الأذى الذي يتسبب للغير في معرضتحقيق غرض أو حاجة أو مطمع هو جوهر الفعل الهمجي، ومن ثمّ نلحق هذا التعريف بصفات
أخرى تشكل بمجموعها ما نراه موجباً لنا للتميز عن الحيوانات الأخرى ككائنات من نوع أسمى أو أرقى أو أفضل.
فإذا كان إيلام الآخر هو الشرط والمقياس، أو بعبارة أخرى المبدأ المنشود الذي يمكننا تأسيس منظومتنا الأخلاقية عليه التي تميزنا
كبشر، فقد يمكننا بعدئذ تصنيف هذه الآلام ـ أكانت في صالح الغير كالجراحة وما شابه أو كانت لصالح فاعلها، وإذا ما كانت مقهرة
كالدفاع عن النفس أو اعتدائية، وبأيّ درجة هي- كما يمكننا عندئذ إيجاد الأنظمة والوسائل للتعامل معها سعياً للعدل، وما ينتج عن
ذلك من أمن واستقرار. ولكن سيلزمنا أيضاً من كل هذا أن نتوقف عن التمييز موضوعياً بين فني يجلسهادئاً في مكتب للإلكترونيات
في بلد ما يتحكم بوسائل فتك في بلد آخر، وبين رجل يفتك بخنجره رجلاً آخر ثم يمثل بجسده، حتى ولو بدا المشهد لنا مختلفاً
لكل منهما، أو بين جندي احتلال تابع لدولة رسمية يطلق الرصاص على متظاهر وفدائي يفجر لغماً في مستوطنة، أو بين فقير رث
الثياب يسق درهماً من غيره وغني متأنق يسق بالكلام الجميل أبناء شعبه. فالهمجيّة هي ذاتها مهما اختلفت أشكالها ويجب ألا ننخدع
بمظاهرها الخارجية ، بل يجب أن نسترشد دائماً بعنصر التعريف الأساس لنحدد فيما إذا كان عملٌ ما همجياً أم لا، والعنصرهذا هو بكلّ
بساطة عدم الاكتراثلآلام الغير في سعينا لتحقيق مطمع لنا، فهذا هو الأساس الذي يتصف به الهمج ويحدونا للتميز كبشر.
. بما أننا فصلنا بين الحضارة والقيم الأخلاقية بحيث لم تعد هذه النقيض أو الضد للهمجيّة، واستنبطنا مع ذلك الصفة المميزة
2
للأخيرة، وهي عدم الاكتراث بإيذاء أو إيقاع الألم في الآخر، بحيث أصبح واضحاً لنا جوهر ذلك الشيء الذي نصفه بالهمجيّة ونعتبره
أمراً سلبياً، فيبقى السؤال الآن فيما إذا كان ممكناً أن نعود فنضع الأسس لمنظومة أخلاقية متكاملة، يمكننا بموجبها أن نصنف ونميز
الأفعال الحضارية بالمعنى الأخلاقي وفقاً لشعورنا هذا، والمقصود هنا أن نرى فيما إذا كان ممكناً أن يشكل هذا الشعور الحسي أو النفور
الطبيعي للفعل الهمجي أساساً ومعياراً نستدل به على هذه القيم بدلاً من افتراض وجودها أو معرفتنا بها بدءاً، فيكون منهجنا لتحديد
تلك القيم في مجتمع حضاري أو فاضل قائماً بشكل مصرح به على النفي بدلاً من الإيجاب، وذلك بعكس المعهود في هذا السياق،
والمقصود بالمنهج الإيجابي، وهو المعهود، افتراضهذا الوجود أو المعرفة بدءاً، مثلاً بالقول إنّ هذه القيم (المستحسن والمكروه، أو الخير
والشر) موجودة موضوعياً ويمكن أن نميز بينها بالعقل، أو أنّا طبيعية ويمكننا أن نميز بينها بالإدراك الحسي، وفي الحالتين فالفكرة هنا
هي أنّه يمكننا بدءاً استنباط أو إدراك، ومن ثمّ وصف هذا الخير الموجود للاسترشاد به في أعمالنا، أو قد نذهب إلى الادعاء في الاتجاه
الإيجابي ذاته أنّ القيم الأخلاقية وضعية، وهي مجرّد ما يتم تهذيبه بالعقل لما تفرزه طبيعتنا الأنانية وفق ضرورات التعاون البشري، أو
أخيراً بالقول إنّ التمييز فيما بينها يعود إلى مصدره الإلهي أو الديني.
سري نسيبة




