ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
133
2016 )9(
العدد
جديد، الأحداث الكريهة التي يشاهدها المواطن العربي في أيامنا هذه، إذ إنّ هذه الأحداث تفرضعلينا واقعاً معاشاً بعيداً عن التنظير،
من شأنه فتح آفاق جديدة للتفكير في المواضيع ذات العلاقة، لعلنا نتمكن من أخذ العبرة من هذه الأحداث، ونتخذها مدخلاً جديداً
للبحث عن أسسواقعية ومعاشة تعيد توضيح تلك القيم الأخلاقية لأنفسنا خاصة، وإنّنا أحوج ما نكون لذلكفي وقت رديء نتلمس
الانبثاق عنه إلى فجر عربي جديد.
وأفضل ما أستهل به مداخلتي هذه عن الحضارة والهمجيّة في ظلّ الأفعال الهمجيّة التي نشهد، التنبيه إلى التمييز اللغوي الأساسي
والبسيط بين الاسم والنعت أو الصفة، وفي سياقنا هذا بين الحضارة والحضاري أو بين الهمج و(الوحش) والهمجي أو(الوحشي).
ويساعدنا التنبه إلى هذا التمييز على أن نتقبل بسهولة القول إنّ نعت الشيء باسمه (مثلاً أنّ هذا الإنسان إنسانيّ) لا يضفي عليه بالضرورة
كافة الأوصاف التي ننسبها إلى الاسم، فهو ليس بالضرورة إنسانياً لكونه إنساناً، بل قد يكون همجياً، وعندما ننعته بالهمجيّة فإنّنا نفعل
ذلك تحديداً لكونه إنساناً وليس من الهمج، بل لن يكون هنالك معنى لقولنا إنّ الهمج همجي إن لم نقصد التكرار اللغوي (والهمج في
لسان العرب هو الذباب المسعور أو أيضاً أراذلة الناس). ومن هنا فمن الضرورة بمكان توضيح هذه المفاهيم لأنفسنا، وذلكفي محاولة
لتحديد ما نجده مكروهاً أو مستحسناً في كلّ منهما.
وقد يختلطعلينا الأمر بداية أو نختلففيتحديد معنى الحضارة، فهل هيمجرد حال الاجتماع البشري الذي ينتقل إليه الناسمن البداوة
عند الاستقرار في مكان ما (ابن خلدون) أم هي تتطلب وجود نمط ثقافي أو اقتصادي أو نظام معاملات بشرية مع ّ؟ فهل الحضارات
التي نتكلم عنها (مثلاً اليونانية أو الإسلامية أو الهندية) هي مجرد منتوجها العلمي والثقافي والفكري في ظلّ حكم سياسي أو اقتصادي
أيّاً كان شكله وكيفما اتفقت علاقاته مع المنظومات السياسية الأخرى؟ وهل هي وصف لمسالك الأفراد وأفعالهم داخل حضارة ما أو
خارجها كما هي وصف للمجموعات؟ وهل هي أساساً حال واحدة أو مطلقة لا تتغير، أم هي صفة تختلف معاييرها ويختلف شكلها
من زمن إلى آخر، أكان موضوعها فرداً أم جماعة؟ ثم لو ذهبنا أبعد من ذلك وتكهنّا بخصائص كائنات ملائكية، فهل يا ترى نقدم على
القول إنّ لديها حضارتها؟ أو لو كان هناك عالم من الكائنات الآلية تتفاعل فيما بينها ومع العالم الخارجي فقط ميكانيكياً لتصريف أمورها،
فهل يا ترى نصطلح على وصف حالها ذلك بـ«حضارة»؟ وقد يساعدنا طرح هذه الأسئلة وغيرها على الخلوص إلى الرأي الشائع أنّ
الحضارة إنّما تصف أحوالاً معيشية بشرية مجتمعية، حتى لو كانتهذه بدائية لا يعدو منتوجها سوى بعضالآلات اليدوية الأساسية على
أيدي بعض أفرادها، وإنّ ما يجعلنا نعتبرها كذلك هي تلك العلامات (كالرسوم في الكهوف) التي تظهر بدء اهتمام أفرادها بما يتعدى
السعي لتحقيق احتياجاتهم البدائية، أي قد نستكينفي النهاية إلى القول إنّ الحضارة هي مجرد الحال (الخلدوني) الذي يتصف به الاجتماع
البشري كيفما اتفق شكله وكيفما اختلفت أطواره الحضارية (أكانت علاماته رسوم الكهوف أو تلك التي لمايكل أنجلو)، وللقبول بأنّ
وجودها هذا (كما نعتبره الحال في أنظمة سياسية عبر التاريخ) لا ينفي أو يستثني الحروب والقتل والتمثيل بالجثث والقهر والعبودية
وغيرها من تلك الأحوال والصفات التي نعتبرها من موقعنا الزماني أنّا همجية وغير إنسانية، مميزين ضمنياً في قولنا هذا بين الحضارة
من جهة (الاسم) وما نعتبرها أفعالاً غير حضارية من جهة أخرى (النعت) رافقت تاريخ تلك الحضارات. لكنّ قبولنا بهذا التمييز
يفضي إلى القول إنّ مصطلحَي الاجتماع البشري والحضارة مترادفان، بحيث يصبح الثاني مجرد تسمية أخرى للمجتمع المدني لتمييزه
عّ قيل أو يفترض أنّه حال طبيعي (ما قبل المدني، إن صح التعبير) للحياة البشرية، والذي توافق المفكرون على وصفه بالهمجيّة. لكنّ
المفكرين، وخاصة في القرن الثامن عشر، الذين استعانوا بهذا التمييز لطرح نظرياتهم في العقد الاجتماعي لم يتعمقوا كثيراً في وصف ذلك
الحال الطبيعي، سوى الإشارة إلى كونه حالاً يخلو من أسباب السلم والأمن، وتسوده العدوانية بأشرس أنواعها، فهو حال من الحرب
والاعتداء يخلو من الاتفاقات العقلانية بين أفرادها، ويعوزه كثير من تلك السمات التي يتصف بها البشر كاللغة والتصرفات اللبقة
والتمييزات الأخلاقية والاهتمام بالأمور الجمالية والشعرية والفكرية والمقدرات الصناعية التي يفتخر الإنسان المدني بتملكها. ولكنهم لم
يسلطوا الضوء على أيّة من هاته الصفات بعينها، كذلك الأمر الذي يدفع الإنسان المدني للتقزز أو النفور منها، ويدعوه بالتالي إلى أن ينأى
بتصرفاته ومسلكه عنها، فاكتفوا في الغالب بالإشارة إلى ما اعتبروه عنصراً جوهرياً مفقوداً لدى الحيوان كالعقل واللغة، مشيرين إلى أنّ
الحضارة والهمجيّة: الاستنباط العقلي من العلاقة بينهما




