Next Page  135 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 135 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

135

2016 )9(

العدد

بالشر إن وسمنا الأفعال البشرية به هو مجرد تلك اللامبالاة وعدم

الاكتراث للآلام والأضرار التي نتسبببها تجاه الآخرين في سعينا

لتحقيق مطامعنا واحتياجاتنا، وخاصة عندما تكون تلك الأضرار

والآلام ماثلة أمام أعيننا، وإن لم تك المقصد بذاته لها.

وقد يعترض أحدهم هنا بالقول إنّ استنتاجنا هذا (اللامبالاة

للأضرار التي نسببها للغير الذي يعترض طريقنا) عام جداً

إذا ما قسناه بالمثال الذي أوردناه، والذي يقتصر على الإيذاء أو

الألم الجسدي الذي يسببه وحش مفترس عند فتكه بالآخر، ولا

يتعداه ليشمل أضراراً أخرى جسدية كانت أو نفسية أو سياسية

أو اقتصادية أوغيرها، مباشرة أو غير ذلك، فهذه الأخيرة جميعاً قد تعتبر أموراً يمكن أن يكون بعضها مكروهاً أو حتى مخالفاً لقانون أو

آخر، ولكننا بالعموم لا نطلق صفة الهمجيّة عليها، وكذلك الأمر أيضاً في احتلال أرض الغير أو الاستئثار بثروات البلاد لطبقة أو إثنية

معينة أو الاستغلال بأشكاله المختلفة، أو حتى الاقتتال عن بعد من خلال التحكم الإلكتروني بوسائل الفتك من قبل دول رسمية، فهذه

جميعاً وإن كانت تتسبب بإيلام الغير والإضرار بهم فهي ليست همجيّة بالمعنى الذي استنبطناه، خلافاً للقتل والتمثيل بالجثث، كالذي

شهدناه في رواندا، والذي نشهده اليوم في بعض الدول ومنها الدول العربية، فهذا ما قد نقول إنّه يميز الهمجيّة والوحشيّة، ومن أمثلته

أيضاً الأعمال الإرهابية كالتفجير في الأماكن العامة إمّا بالقنابل الموقوتة أو مباشرة بالأسلحة اليدوية.

ومن حقنا فعلاً هنا أن نتساءل عّ إذا كان معيار الهمجيّة (كما أوردناه) هو عدم الاكتراث لإيذاء الغير بالمطلق، في معرض سعينا

لتحقيق أطماعنا واحتياجاتنا أيّاً كان شكل هذا الايذاء، أو إذا كان محكوماً بحيثيات الإيذاء الجسدي (كأن يكون فتكاً مباشراً). ولكن

من غير الواضح فيما إذا كان الاعتراض المذكور يحوي منطقاً قائماً بذاته، أي إن كان هنالك مقياس موضوعي يستند إليه، وقد يقال في

هذا السياق إنّ ما يدعم الاعتراض المذكورهو ما تتعارف عليه الناس أو المتعارف عليه، فالناسفي يومنا هذا يميزون بين تفجير قنبلة في

مسجد أو مقهى من جهة، وبين مدير يقهر موظفاً لديه أو يتجبر عليه من جهة ثانية، كما يميزون مثلاً بين التمييز ضدّ امرأة في عملها أو

سلبها مالاً أو حقاً من حقوقها كإنسان وبين اغتصابها، فأحدهما لديهم مكروه، ولكنهم يعتبرون الآخر عملاً همجياً. لكنّ الرجوع إلى

ما هو متعارف عليه لدى الناس لإسناد الاعتراضيجعل التمييز نسبياً أي مرهوناً بأي أناس نتكلم عنهم، وفي أيّة حقبة أوبيئة «ثقافية»

أو وضع سياسي معين، ويصبح الأمر بالتالي أمراً وضعياً فيما يعتبره أو يقيسه الفاعل في إطار بيئته أو وضعه، ناهيك عن كون كافة هاته

المداخلاتفي معرض تعريف الفعل الهمجي آتية الآن ليس من ذلك الحال الهمجي الذي نود استنباط السمة المميزة منه، بل من نقيضه

كما يزعم، أي من ناحية مفهومنا لما هو إنساني، وهذا في الوقت الذي نحاول فيه أن نفهم «الهمجي» في إطاره هو، أي بدون دور. فإذا

ما تدخل المعترضفأضاف إننا بدون شك نحتاج إلى شبك المفهومين مع بعضهما بعضاً، لأنّه لا خيار لنا سوى ذلك، والعبرة هنا هي في

استعمال الإنسان عقله للتمييز بين ما هو خير وما هو شر، وتحكيم نزعته إلى الخير على غيرها من قوى النفس لتحقيق أغراضه، فيمكن

الرد إنّنا بالعكس قادرون باستعمال العقل على استنباط السمة الهمجيّة المميزة كمبدأ عام، كما فعلنا ذلك سابقاً، وأمّا الارتكاز إلى العقل

للتمييز بين أنواع الضرر وأيّ منها مشروع فلن يكون مسعفاً للمعترض الذي يود التمييز أساساً بين أنواع الضرر ـ مثلاً بين إيلام الآخر

جسدياً أو نفسياً فقط- فهو هنا يفترض التمايز الأخلاقي بينها بالعقل مسبقاً، في حين أنّ هذا هو المطلب الذي يريد إثباته، وليس لديه

في مستهل حجته الاعتراضية التي يشير فيها إلى العقل في الواقع إلا معناه (أي العقل) كأسلوب في التفكير والتخطيط للفعل الذي

يتسببفي إيقاع الألم أو الضرر، أي يبقى الأمر مرهوناً في الحالة هذه بالحسابات المنهجية التي يستعملها العقل، والمتصلة بتحقيق الهدف

أو المطمع الذي يقرره لنفسه، وهذا هو لبّ الإشكال، أي أن يستعمل العقل كوسيلة فقط، فتنظيم الدولة الإسلامية مثلاً يستطيع تبرير

أفعاله لنفسه بمنطق «إدارة التوحش»، أي من خلال التأسيس على أنّ المنظومات السياسية/المجتمعية التي تنشأ على أرضية «الحالة

الهمجيّة هي ذاتها مهما اختلفت أشكالها ويجب

ألا ننخدع بمظاهرها الخارجية ، بل يجب أن

نسترشد دائماً بعنصر التعريف الأساس لنحدد

فيما إذا كان عملٌ ما همجياً أم لا، والعنصرهذا

هو بكلّ بساطة عدم الاكتراثلآلام الغير في

سعينا لتحقيق مطمع لنا، فهذا هو الأساس

الذي يتصف به الهمج ويحدونا للتميز كبشر

الحضارة والهمجيّة: الاستنباط العقلي من العلاقة بينهما