Next Page  137 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 137 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

137

2016 )9(

العدد

والجامع لما أسميناه بالاتجاه الإيجابي المعهود هو الانطلاق في تحديد منظومتنا الأخلاقية من قيمة إيجابية كيفما اتفقنا عليها، طبعاً أو

عقلاً أو وضعاً، وهذا مشروع مضنٍ جاهد في طرح جوانبه والدفاع عنها بنجاحات متفاوتة أفواج متتالية من المفكرين، بدءاً بالفلاسفة

الإغريقيين، ولكن دون التوصل إلى نتيجة جامعة، ومع الاستمرار في ما نشهده من اختلافات في وجهات النظر حول ما هو همجي أو

شر، وما هو حضري بنظر من يدعي أنّنا يمكننا أن نميز بدءاً بين هذه الأمور بالعقل أو الإدراك، أي أن نميز بينها كما نفعل مع المرئيات،

ومع الاختلاف بشكل أعمّ حول القيم الأخلاقية التي كثيراً ما تصل بنا إلى طريق مسدودة، حاول كثير من المفكرين البحث عن ركن

أو معيار يمكن استخلاص القيم المرجوة منه، أي إلى مبدأ أوليّ عام يمكن بالعودة إليه تحديد القيمة الأخلاقية لأفعال بعينها، بل وبناء

منظومة أخلاقية بأكملها، تماماً كما قد نفعل إن كنا نتبع ملة فنعود إلى نص أو تعليم إلهي إن اختلفنا بخصوصفعل بعينه إذا ما كان خيراً

أوشراً، فيكون اجتهادنا الفقهي مؤسساً على أصول راسخة. ويحوجنا جميع ذلك إذا ما انتهجنا العقل أو الحدس إلى إيجاد مقياس أساس

نعود إليه يكون معياراً عاماً إذا ما كنا نتكلم عن البشر عامة، ولكي يلعب حجر الأساس هذا الدور المنشود فلا مناص من أن يكون

مبدأ شبيهاً بما يُسمّى بالضرورات العقلية، أي تلك التي يمكننا منها أن نستخلص قيماً أخلاقية عينية تترتب منطقياً عليها، وقد اجتهد

المفكرون على اختلاف مذاهبهم في هذا الأمر، فنجد أمثلة على ذلك الطبيب الرازي الذي يؤسس منظومته على مبدأ اللذة والألم من

المنظور الذاتي، فيقول إنّ المبدأ الذي يجب أن نسترشد به في حياتنا هو ألا نسعى لتحقيق لذة أو مطمع في هذه الحياة يسبب لنا ألماً يزيد

كماً ونوعاً في هذه الحياة أو في الآخرة عن اللذة أو المطمع الذي نسعى إلى تحقيقه، وطرح الرازي مبدأه هذا في (سيرة الفيلسوف) وأيضاً

في كتابه (الطب الروحاني)، وكما هو بّ فقد طرحه كمعيار عقلي يمكننا بالاستناد إليه بالتالي تصنيف أفعالنا بشكل يضفي عليها قيمتها

الأخلاقية ويميز فيما بينها واحداً واحداً. ثم هنالك أيضاً ما يشابه مبدأ الرازي، وهو المقصد الفقهي القائل بتقديم درء المضار على تحقيق

المنافع، فهذا أيضاً مبدأ عقلي الفكرة منه استخلاص النتائج المنطقية التي تترتب عليه بالنسبة إلى واحد واحد من أفعالنا، ثم هنالك

أيضاً المبدأ الذي انتقاه الفيلسوف الألماني «كانت» وهو أن أفعل عند اختياري للفعل ما أؤمن بأنّ أيّاً كان لو كان بمكاني عليه أن يختاره،

وهذه جميعها، وإن اختلفت عن بعضها بعضاً، فإنّا تتماثل بكونا مطروحة كمبادئ عقلية يستند التمييز قيمياً بين الأفعال ـ مثلاً بين ما

هو حضاري وما هو همجي- على أساسها، وتماثلها مع الضرورات العقلية يشير إلى أنّ العمل بموجبها كيفما تمّ التوصل إليها، وخلافاً

للعمل نفسه حتى ولو كان بموجب الغريزة هو الذي يجعله أخلاقياً بالحقيقة، وذلك بسبب كونه اختياراً واعياً للفاعل، وليس مجرد

فعل غريزي أوجبته الطبيعة، مثلاً كدفاع الهرّة عن أطفالها. وإن كانت هذه المبادئ مصاغة شكلاً بالإيجاب (أي وفقاً لما سمّيناه بالاتجاه

الإيجابي)، وتختلف بالظاهر عن الاستنباط بالسلب الذي اعتمدناه لكي نحدد مبدأنا، إلا أنّ من الملفت أنّه قد تمّ استخلاصها جميعاً من

الغرائز الطبيعية السلبية، أي ممّا نفترض أنّ غرائزنا الطبيعية سوف تملي علينا القيام بعمله، فيشير لنا هذا المبدأ العقلي إلىضرورة التحرز

منه. فالمبدأ الذي جاء به «كانت» مثلاً يفترض أنّني قد أميل بغريزتي لاختيار فعل أستسيغه لنفسييختلف عّ قد يستسيغه الآخرون كلّ

لنفسه، ولكي أقرر ما يجب أن أفعل والحالة هذه (فعل ما هو حسن) فيجب عليّ أن أتخيل ما الذي يجب أن يفعله أيّ انسان آخر لو كان

مكاني، وهذا الذي أعتقد أنّه يجب أن يفعله لن يكون ما يستسيغه لنفسه، فمبدأ «كانت» إذن يستند إلى التحرز ممّا هو أناني بالغريزة.

والمقصد الفقهي كذلك يحذر من التهافت وراء ما يبدو جميلاً أو مستحسناً غاضين النظر عن الضرر المحيط بنا، أي يفترض أنّنا قد

ننجر بغرائزنا وراء منفعة دونما اعتبار للأضرار التي قد تترتب على ذلك، ومبدأ الرازي يحذر كذلك من التهافت وراء مسّة قد تعقبها

مضرّة، فبالرغم من أنّ كافة هذه المبادئ جاءت بصيغ إيجابية فهي قائمة ضمنياً على النفي أو السلب، أي وفقاً للمنهج الذي انتقيناه،

وتختلف كذلك عن المعيار الذي توصلنا إليه سابقاً، والذي يسلط الضوء على الألم أو الضرر المسبب للآخر، فالاختلاف بّ في ارتكاز

مبدأ الرازي إلى معيار ألم الذات وليس ألم الآخر، وإن اتخذناه حجر أساس لبناء منظومتنا قد نجد أنفسنا في عالم لا يعير أحدنا فيه اهتماماً

للآخر، فالمضرّة التي يعينها (كالسوفسطائيين) هي بالأساسمضرّة النفس، وهي وإن اتخذت الثوابوالعقابفي الآخرة بعين الاعتبار،

فتبقى النفسهي محور المضرّة الممكنة. كما يختلف معيارنا أيضاً عن المقصد الفقهي، وهذا الأخير، وإن كان يشمل الغير كما يشمل النفس

وقد يشمل الألم فيما يشمله من مضار، فهو يفعل ذلك كمعادلة حسابية عامة دون تحديد لعدم إيلام الغير تخصيصاً أو بدءاً. ويختلف عن

المقياس الذي انتقاه «كانت» لكون الأخير واعزاً لأن أستوحي من عالم عقلي أخلاقي ما يجب عليّ فعله، وهذا قد يترك الأمر مفتوحاً

لوجهات النظر (كيف نتفق على ذلك الأمر الذي عليّ أن أفعله؟). ثم يختلفعنها جميعاً لأنّ استخلاصه من الغرائز الطبيعية السلبية يأتي

الحضارة والهمجيّة: الاستنباط العقلي من العلاقة بينهما