ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
134
2016 )9(
العدد
سري نسيبة
هذا النقص تنعكس آثاره في تلك التصرفات العدوانية والشرسة بين الحيوانات المفترسة التي يجري اليوم وصفها بالتصرفات الهمجيّة،
خاصة عندما يتصف بعض بني البشربها.
وعليه فليس الحديث غريباً عن همجيّة الإنسان، والهمجيّة التي اقترنت قديماً بالحضارات، والتي نقرنا اليوم بتصرفات جيش أو
جماعات أو أفراد، فكأنّ الفصل تاريخياً بين الإنسان المدني والحيوان الهمجي لم يوجبعند حدوثه استبدالاً كليّاً أو دفعة لصفات بأخرى،
بل بقيت بعضصفات طور متقدم ملتصقة بطور مدني أجدّ منه، ليس كسمة يتقوم بها، بل كأعراضسلبية لازمته، بعضها أو الآخر،
لأيّ سبب كان من الأسباب التي واجهته، أو بقيت وتبقى ملتصقة به كمخلفات مرحلة سابقة لم تلفظ بعد، أو استجدت وتستجد
أعراضها كإفرازات لصراعاتسياسية أو غرائزية غيرها، ولكنها تظلّ في جميع الأحوال «الاستثناء الذي يثبت القانون»، أي الذي يثبت
أنّ المجتمع مدني، وإنّما تشوبه سمات ومعاملات غير حضارية (أي همجية) ما زالت تتطلب الاستئصال أو التهذيب كي يستكمل النوع
البشري تطوره الحضري أو يحافظ على المستوى الذي توصل إليه بالقدر الممكن. والعبرة في كلّ ذلك التمييز بينصفاتمحمودة وأخرى
منبوذة، بما يشمل ذلك الفصل بين ما هو خير وما هو شرفي المعاملات البشرية.
بيد أنّ هذا يدعونا إلى النظر في معنى الهمجيّة أو الوحشيّة، والذي نستلّ منه تلك السمة الأساسية أو السمات التي نصفها بأنّا أوصاف
لا حضارية ولا إنسانية، أي يعتبرها المدني نقيضاً لحاله أو وضعه ويعتبرها شراً، فننظر هنا فيما إذا كانت الهمجيّة فعلاً حالاً طبيعياً
للإنسان يسبق حاله المدني، أم إن كانت سمة لحال افتراضي عام كما يقول الكثيرون من الفلاسفة، فهم لا يدّعون بالضرورة أنّ البشر
وجد فعلاً في حال كهذا، ولكنهم يؤكدون أنّ الاجتماع البشري إن لم يوجد أو انار فسوف يستبدل بالعداوة أي بوضع (حال طبيعي)
يسعى فيه كل إنسان للذود عن نفسه وتحقيق مطالبه بما أوتي من قوة، الأمر الذي سوف يقود إلى تفشيكافة تلك الأفعال العدوانية التي
تتصف بالهمجيّة والوحشيّة، والتي لا يمكن تقييدها إلا بعقد ضمني أو غيره، يتفق من خلاله الأفراد على مرجع (سلطة كانت أم قانوناً)
يضمن سلامة كل منهم (توماس هوبس)، أو يشرع ممتلكاتهم التي تملكوها بأعمالهم (جون لوك)، بحيث تستبدل حال العداوة بينهم
بحال الأمن والسلام (المجتمع المدني أو السياسي). فالوضع الطبيعي كما يراه هؤلاء هو «قانون الغاب» أو العداوة المستمرة بين الأفراد.
وعندما نأتي تأسيساً على ذلك إلى تعريف الأفعال الوحشيّة والهمجيّة (أي غير الحضارية) التي يتمّ ارتكابها في إطار حضارة أيّ مجتمع
مدني، أو بين مجموعة بشرية وغيرها، والتي يُطلب استئصالها للدفع والارتقاء بالتطور الحضاري فيها إلى درجة أفضل، فنحن نذهب
مباشرة إلى هذا المعنى العام للاسم (الهمجيّة) ونسقطه دون تمييز بينه وبين النعت (همجي)، ونفترض أنّ السمة الأبرز في ذلك الوضع
الذي يتكلم عنه الفلاسفة هي العداوة بين الأفراد التي تتجسّد في الاقتتالات الوحشيّة والهمجيّة فيما بينهم، باعتبار أنّ الوحوش البريّة
والهمج يتقاتلون فيما بينهم بضراوة، ولا يتعاونون بالأغلبفي نيل مطالبهم الحسيّة (الغذاء والجنس).
بيد أنّ من المتفق عليه في يومنا هذا وأصبحنا ندركه أنّ التعاون بينكثير من أنواع تلك الحيواناتلمعاشها ونيل قوتها أمر لا ريبفيه ولا
يميز النوع البشري عنهم، بل إنّ كثيراً منها لا تفتك ببني نوعها كما نفعل نحن، كما لا تتميز أيضاً من جهة الكيف بأدمغتها، فكلنا يحتسب
لأمره وإن كان بطرق ومستويات ولأهداف متفاوتة، وفي النهاية فإن كان هنالك ما نلحظ أنّه من أكثر السمات السلبية بروزاً لديها،
وتنفرنا من أن نكون متصفين بها، فهي تلك اللامبالاة المطلقة التي تظهرها تلك الحيوانات للأضرار والآلام والأوجاع التي تتعرضلها
ضحاياها- ما تفترسه لإطعام نفسها أو ما تتقاتل معه للسطوة والاستئثار بسلطة أو غلبة أو أنثى فيما بينها، ونحن إذ لا نجد من المناسب
أن نصف أفعالها تلك بالخير أو الشرأو أن نميز بين مذنبوبريء فيما بينها لما ندركه من غياب المقدرة لديها لمقاومة ما تدعوها إليه طبائعها
لفعله عند الافتراس والاعتداء، فإنّنا نشعر تلقائياً أنّ هذه السمة ـ اللامبالاة المطلقة للأضرار التي تلحق بضحاياها- هي تحديداً ما تمثل
لدينا الهمجيّة في أوضح معانيها، إذا ما صادفناها في أعمال البشر فيما بينهم، وتكون تجسيداً في هذه الحال لما نعتبره شراً في حال الإنسان
الذي يتمتع بالقدرة علىتجنب التسبب بالإلم، وإن لم تككذلكفي عالم الحيوان. فنستنتج أنّ خلاصة ما يمكننا فعلاً اعتباره همجيا ووصفه




