Next Page  138 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 138 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

138

2016 )9(

العدد

واضحاً ومباشراً، أي من ذلك الأمر الذي أنفر بطبيعتي منه، وما يمكن بالتالي اعتبارهشراً أوصفة همجية أميل غريزياً للتنصل من مثلها،

ويحفزني ككائن واع أن أتقزز من أن أفعلها. وقد يكون الحس النفوري هذا أوثق أساساً لبناء منظومة القيم من المدخل الذي يطرح مبدأ

عقلياً يحدد لي واجباً أخلاقياً يحثني على الإيمان به، ومن ثمّ العمل بموجبه بدءاً. وفي المجمل يمكننا من خلال الارتكاز إلى ذلك الحس

النفوري أن نعرفجوهر تلك الصفة الحيوانية الهمجية التي نسعى غريزياً كبشر إلى أن نتحرز من الاتصافبها، وأن نستنبط منها بالعقل

معياراً نؤسس به لما يمكن أن يشكل لنا منظومة أخلاقية إنسانية بأنّا تكمنفي عدم اكتراث أحدهم لما يسببه من ألم لآخر في معرضسعيه

لتحقيق منفعة أو مصلحة أو مطمع لنفسه. وإذا كنا نستطيع أن نستنبط بالعقل من تجربتنا الحسية هذا المعيار فيمكننا أن نلحظ مباشرة أنّه

إن كانت بعض فصائل الحيوانات مضطرة بطبيعتها بألا تكترث لألم ضحاياها التي تفتك بها من أجل افتراسها أو السطوة عليها، فإنّ

عدم الاكتراث هذا هو بالتحديد عمل همجي يمكن للإنسان من خلال مقارنة نفسه مع الحيوان التحرز من مثله باستعمال عقله (أي

من إدراكه للقدرة الموجودة لديه لأن يتجنبه)، ويكون بعدم تحرزه منه بعد هذا الإدراك والبحث عن بدائل همجياً. ونستطيع من هنا،

وباستعمال المعيار المستنبط المشار إليه كالمعيار الأساس والعقل لمعاينة الأفعال واحداً واحداً، بناء المنظومة الأخلاقية المتوخاة، والتمييز

بين ما نرتئيه خيراً وما هو شرفي كلّ أفعالنا.

وإجمالا فالمقصود بما أسميناه الاكتراث للآخر ليس هو تلك الغريزة الطبيعية (الإيجابية) الموجودة لدى الإنسان كما للحيوان لحماية

وعناية ذوي القربى والدم (مثلاً كالعصبية لدى ابنخلدون)، أو التي توجد لدى اللبؤة مثلاً لتعتني بأطفالها، بل تلك الغريزة الـ«نفورية»

تجاه الأفعال الدموية التي ترتكبها الحيوانات الفتاكة ببعضها بعضاً للسطوة أو الافتراس، والتي يتميز ارتكابها بعدم الاكتراث بالألم

والضرر الذي تسببه للآخر. والأخذ بهذا المبدأ كمنطلق عقلي لتحديد ما يمكن أن يميزنا عن الحيوانات الأخرى، وما يمكن بالتالي أن

نستشفّ منه ما هو حضري وأخلاقي بالنسبة إلينا كنقيض لما هو همجي وشرّاني هو أكثر وثوقاً من أي مبدأ آخر قد ننتقيه لبناء منظومتنا

الأخلاقية، أولاً لأنّنا نستمدّه من التجربة الحسية والغرائزية بدلاً من أي فضاء غيبي، وثانياً لأنّه لا يختص (كقرابة الدم مثلاً) بأفراد

بعينهم دون غيرهم.

ولا وجه غرابة في تعريف الإيجاب (الخير) بالسلب (الشر) في سياق القيم الأخلاقية، خلافاً لما هو عليه الحال في سياق المنطق ـ حيث

نعرف ما هو غير صادق بالصادق مثلاً- إذ إنّ الضرورات المنطقية تستوجب الإثبات أولاً، فقانون عدم التناقض يستوجب قانون

الإثبات (إن كانشيء هو كذا فهو كذا)، وأمّا القيم الأخلاقية فنحن نستشفها بالمعاينة والتجربة، وبالأغلب من خلال رفض نقائضها،

وليس غريباً والحالة هذه أن تكون ثمانٍ من الوصايا العشر المذكورة في التوراة تعليمات بما يجب عليّ ألا أفعله، واثنتان منها فقط بما يجب

عليّ أن أقوم بفعله، وليس غريباً أيضاً أن نجد أنّنا أقلّ ثقة بمعرفة أو تعريف ماهية قيمة أخلاقية إيجابية ما (كالعدالة مثلاً) من ثقتنا

بمعرفة أو تعريف ما هو ظلم أو ليس عدلاً. فما يستفزنا ويحفزنا بالأغلب هو حسّنا النفوري واستياؤنا بل استهجاننا لظلم يتمّ ارتكابه

أمام أعيننا ويستنهضنا ذلك للمطالبة بـ«العدالة»، تحديداً في رفع ذلك الظلم المشاهد. أي أنّ الأخذ بالمنهج السلبي القائم على حسّنا

الغريزي لتأسيس منظومة أخلاقية ليس منهجاً غريباً على عاداتنا البشرية، إلى جانب كونه مدخلاً عقلياً لتصميم تلك المنظومة. وأخيراً

فإنّنا نتكلم هنا إذن ليسعن علاقات غرائزية تجمع فيما بيننا، بل عن قانون مستنبط من غرائزنا يمكننا صقله كمبدأ أخلاقي عام يشكل

أساساً لمنظومة أخلاقية إنسانية ينتظم منها تجمع بشري لا تشوبه الهمجيّة.

ونستخلصمن كلّ ما سبق أنّ هنالك التباساً شائعاً لمفاهيم الحضارة والهمجيّة، كالإشادة أو الاستهجان بعادات ما، وأنّه يمكننا رفع

هذا الالتباس أولاً بالاتفاق على أنّ الحضارة أو الحضارات هي مجرد أطوار مختلفة للتجمعات البشرية المتعاونة، والتي قد يتصف بعضها

أو كلها بأفعال همجية، وبالاتفاق ثانياً على أنّه إن أردنا استخلاص الأمر الجوهري فيما نعتبره همجياً فسنجد أنّ ذلك هو عدم الاكتراث

للآخر في معرض السعي للاستحواذ على ما نريده لأنفسنا، والعبرة العقلية في جميع ذلك ليس بالمشهد الماثل أمامنا، وقد يقززنا (مصدر

المبدأ)، بل في المعنى، أي المبدأ نفسه.

سري نسيبة