Next Page  139 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 139 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

139

2016 )9(

العدد

. نأتي الآن إلى ما هو أعقد، وذلك بمعاينة ما هو ماثل أمامنا

3

من مشاهد سياسية واقعية يمكننا تحكيمها للمبدأ الذي انتهينا

إليه: وأوّل القول تجنب إيلام الآخر من فعل أنوي القيام به،

ولكن فلنقلْ إنّ المبدأ قد تمّ تجاوزه في الوضع الماثل أمامنا، وإنّني

أنا الضحية التي تعاني من ألم تسبب به الآخر، ولنقلْ أيضاً إنّ

هذا الآخر هو المنظومة السياسية التي تحكمني، والتي من خلال

حكمها لي، بل تحكمها في معاشي، تنهب ممّا أعتبره (حقاً) لي أو ما

أطمع به لنفسي، فهل لي والحالة هذه أن أقوم بفعل لتغيير أو قلب

المعادلة، ممّا سينتج عنه التسببفي إيلام ذلك الآخر؟

وللتوضيح فإنني، وإن كنت ما أزال مقيّداً فقط بالمبدأ الأولي

الذي اعتمدته ولم أستخلصمنه بعد أيّ مبدأ أو أي معنى أخلاقي غيره، لن يمكنني الاستعانة بمبدأ كذلك الذي يشرع لي استعادة ملك

أو حق أو أرض تمّ اغتصابها، وهو ما أعتبره حقاً مشروعاً لي، فلن يمكنني مثلاً الاستعانة بما يمليه الحق (ليست لدي إجابة بعدُ عن

السؤال فيما إذا كان لي حق أصلاً)، بل كلّ ما أمتلكه للبتّ في أمري هو إن كان مبدئي يسمح لي بل يوجب عليّ الاحتراز من التسببّ في

الألم لغيري عند قيامي برفع الألم الذي يسببه غيريلي ـ الأمر الذي أجد نفسيمتحفزاً للقيام به. فيطرح السؤال عندئذ فيما إذا كنّا قادرين

على القيام بفعلنا دون إلحاق الألم بالآخر، وفيما إذا كان وقوع الألم حتمياً مانعاً للفعل، أو إن كان كلّ الألم كبعضه، بحيثيجاز ما هو أقله،

أو ما هوضروري فقط، ولكي أجيب عن هذه الأسئلة فما أحتاجه وفقاً لمبدئي فقط هو النظر فيما يوجبه الاكتراث، أي التدقيق في المعنى

المقصود بهذه الحال، ولكي يتوافق المعنى مع الأصل فيجب أن يكون المقصود هو التحرز ما أمكن، أي أن أعمل عقلي في أن أختار طريقاً

لا تسبب الألم، وأن أستقصي كافة الوسائل الممكنة لكي أتجنب إيقاع الضرر ما أمكن، ولكنني وبعد ذلك أكون قد استوفيت الشرط

المطلوب، وما يتبع ذلك بحسب الضرورة يكون مجازاً، ومن هذا المجاز أن أختار أقلّ الضرر إن كان لا مناصمن هذا البعض، فالأكثر

والأكثر حتى تمامه إن كان لا مناصمن ذلك. وهذ الحال الأخيرة قد تتمثل بوضع جذري حين تكون حياتي معرضة للخطر، ولا توجد

وسيلة أخرى لأن أحقق ما أريد من الدفاع عنها غير القضاء على الآخر. وللإجمال فلن يوجد لديّ معيار أخلاقي لتحديد الفعل الشرّاني

على هذا المستوى الأول سوى المعيار المذكور، ولن تكون لدي أيّة معايير أخرى، كالاستشهاد بحق لي أدعيه، أو باستعمال وسيلة قتالية

بدل أخرى، أو بالادعاء أنّ أهدافي عسكرية وليستمدنية، أو أنّ اعتدائي دفاعي أو وقائي، إذ لا يمكن أن تشكل أيّة من هذه الادعاءات

و الحجج مسوّغاً مقبولاً قبل استيفاء الشرط الأساسي الذي استنبطناه للفعل المعني.

وليس غريباً أن نجد في الأدبيات الغربية بخصوص ما يُسمّى بـ«الحرب العادلة» أن يكون القرار بخوضها خياراً أخيراً، بعد أن

تكون الجهة التي تفكر في القيام بها قد استوفت تجربة كافة الوسائل الأخرى قبل الإقدام عليها، فهي الخيار الأخير. ومع ذلك فيجب

أن تستوفيشروطاً أخرى عند وقوعها، منها إيقاع أقلّ الضرر الممكن وخاصة بالمدنيين. وبالرغم من مقاربة هذه الشروط للمعيار الذي

استنبطناه للفعل الحضاري إلا أنّ إقحام «العدالة» كهدف لمثل هذه الحربفي تلك الأدبيات (وهذا شرط أساسي لتلك الحروب)، هو

أمر إضافي، بل قلْ طفيلي، حيث يفترض مقياساً مستقلاً ومشكوكاً فيه للقيم الأخلاقية ـ والأصل المسيحي في الغرب لهذا في العصور

الوسطى أن تكون الحربفي سبيل إعلاء كلمة الله- ويتمّ إسقاط هذا الوصفعلى الحروب لتمييز العادلة منها، وتكمن المشكلة هنا في

أمرين بالنسبة إلينا: أولهما أنّ مسعانا هو وضع أساس لتعريف العدالة كقيمة أساسية من قيم المنظومة المتوخاة من خلال المعيار الذي

انتقيناه، في حين أنّ نظرية الحرب العادلة تصادر هذا الأمر في تعريفها للقيمة المعنية في المقدمات، وثانيهما أنّ التاريخ يشهد على تنوع

بل تناقضما يعرفه الناس كهدف عادل ـ خذ مثلاً ما يحدثفي العالم العربي هذه الأيام من اعتداءات يدّعي أطرافها بأنّا عادلة. وهذا

يقودنا للقول إنّ الأسلم هو عدم استيراد قيم من الخارج عند تعريفنا للمقياس الأساس الذي نعتمده لتحديد ما هو حضاري أو إنساني

المقصود بما أسميناه الاكتراث للآخر ليس

هو تلك الغريزة الطبيعية (الإيجابية) الموجودة

لدى الإنسان كما للحيوان لحماية والعناية

بذوي القربى والدم ، بل تلك الغريزة

الـ«نفورية» تجاه الأفعال الدموية التي ترتكبها

الحيوانات الفتاكة ببعضها بعضاً للسطوة

أو الافتراس، والتي يتميز ارتكابها بعدم

الاكتراث بالألم والضرر الذي تسببه للآخر

الحضارة والهمجيّة: الاستنباط العقلي من العلاقة بينهما