Next Page  140 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 140 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

140

2016 )9(

العدد

أو أخلاقي، وأن نتمسّك بالمعيار الذي استنبطناه بدءاً، وأن نبقى متمسكين به، تفادياً للخلط الذي سوف يحدث إذا ما بدأنا بإسقاط

قيم من الخارج.

ويمكننا باستعمال هذا المعيار أن نستوفي وبسهولة تقييم الكثير من الاعتداءات، ومنها على سبيل المثال أفعال تنظيم الدولة الإسلامية،

إذ من الواضح أنّ المطمع في أسلمة المجتمع من خلال قلبه رأساً على عقب (اعتماد النظرية االهوبسية لإعادة التوحش تمهيداً لبناء مجتمع

جديد) يتناقضحديّاً مع ما سلمنا به كالمعيار الأساس لما هو أخلاقي أو حضاري أو إنساني، هذا المعيار الذي يتطلب تنقية نفوسنا من

صفات التوحش أو الهمجيّة، ويتناقضمع هذا المعيار أيضاً لأنّ الأسلمة المرجوة كهدفلا تتأتى بالضرورة أو فقط من خلال الإرهاب،

فليس ثابتاً أنّ المنهج الهمجي المتّبع سوف يؤدي بالضرورة إلى الأسلمة المرجوة، وليس ثابتاً أيضاً أنّ الإرهاب قد تمّ اللجوء إليه بعد

التأكد من عدم جدوى أيّة وسيلة أخرى، وبالتالي ودون التطرق للهدف نفسه يمكننا البتّ في أنّ الأفعال الداعشية همجيّة، وأنّ التنظيم

اختار تلك الطريق التي افترضها أكثر وقعاً، دون اكتراث للألم الذي يسببه، أي منطق العنف، وذلك لمجرد كونه أكثر وقعاً باعتقاده.

ونحن إذ نصف التصرف الداعشي بالهمجي فعلينا تذكر أنّنا نفعل ذلك ليس بسبب المناظر المقززة التي نشاهد، بل تأسيساً على المبدأ

الذي حددناه، وهذا هو المبدأ نفسه الذي يمكننا من محاكمة أفعال الدول التي تلجأ لاستعمال القوة دون أن يكون استعمالها ضرورياً،

أكان في ساحات دول أخرى أو في ساحاتها ضد أبناء شعبها، أو ضد من يقعون تحتسيطرتها العسكرية.

واستذكاراً للمشاهد المؤثرة التي استهلّ فيها الربيع العربي، فما كان وجهها الحضاري/الإنساني متألقاً إلا بسبب لاعنفيتها، أي لعدم

لجوئها للعنف، وما كانت الحكومات التي لجأت إلى العنف لقهر الجماهير همجيّة إلا بسببلجوئها لذلك العنف دون اضطرار، وأمّا إذا

كانت الضرورة التي استدعتها لاستعمال العنف هي للحفاظ على ذاتها، بعد أن تكون قد استنفدت كافة الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك

دون إيقاع الأذى بالجماهير، فلا يمكننا عندئذ وسمها بالهمجيّة، بغض النظر عن طبيعة تلك الحكومات، مع الأخذ بالاعتبار أنّ النظام

الذي لا يضمن بقاءه إلا من خلال قمع جمهوره يكون بالتالي همجيّاً كأيّ تنظيم إرهابي.

ونشأة إسرائيل هي الأخرى كذلك، فهي لم تكن لتستطيع أن تقوم ككيان إلا عن طريق الاستحواذ على أرض الغير (أي الذي كان

يقطنها) وإيقاع الألم بهم، وحسب معيارنا فليست أحقية الأرض ما استوجب همجيّة فعلها، بل الألم الذي سببه ذلك الفعل لغيرهم

في معرضسعيهم لتحقيق غرضهم، ولا لجوء قياداتها لحماية اليهود من الاعتداء عليهم في أوروبا والحفاظ على أنفسهم شكل مسوّغاً

للاعتداء على شعب غيرهم، فالألم المسوّغ يكون فقط للدفاع عن أنفسهم من الذي سبب لهم الألم، وليس من غيره. وإسرائيل الآن

تستمر في منهجها الهمجي لأنّ سطوتها على أرضالغير وسكانا هي استمرار في إيقاع الألم بهم، ولا يلغي ذلك إلا رفع هذا الألم، إمّا من

خلال إناء الاحتلال، أو تقاسم سبل العيش مع الذين يقطنون الأرض، إلى جانب رفع الألم عن الذين تمّ تهجيرهم منها.

وما ينطبق على إسرائيل ينطبق على الشعب الفلسطيني، أي إنّ أفعالهم للحفاظ على كينونتهم كي لا تتصف بالهمجيّة يجب أن تلتزم

بالمعيار ذاته، أي أن يكون العنف المسبب للألم هو الوسيلة الوحيدة المتبقية بعد استنفاد كافة السبل، وأن يكون استعماله مضمون

النجاح، وألا يستعمل ما هو زائد على الضروري. وأمّا الهدف فهو ضمن المنطق الذي نتحدث به منوط فقط بإزالة أسباب الألم، وليس

بحلول أو بأطماع بعينها، فالأساس ليس شكل الحل (أو الانتقام أو القضاء على الآخر)، بل الحفاظ على الكينونة الفلسطينية وإزالة

الألم عنها.

وعوداً على ذي بدء، فالهمجيّة ليست منحصرة في مكان ما أو في قوم ما، بل هي متفشية في أرجاء العالم وحضاراته المختلفة، وعلى

مستوى الحكومات، كما على مستوى الأفراد أو المجموعات الصغيرة، وقد يحزننا هذا الأمر، إذ يزيل غشاوة البراءة عن أعيننا، فليس

الشاهد ناطحات السحاب والأثاث الجميل والثياب الأنيقة والكلام المعسول أو المنتوجات الأدبية والفنية والموسيقية والعلمية، أو

سري نسيبة