ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
141
2016 )9(
العدد
نظام الحكم إن كان ديموقراطياً أو خلافة أو عسكرياً أو ملكياً،
بل الشاهد أن نتجنب إيذاء الآخر قدر المستطاع في سعينا لتحقيق
مطلبنا. وما نفعله سوى ذلك يضعنا فعلاً في خانة الوحوش
الفتاكة.
. فيما سبق جاء ذكر الفيلسوف الألماني «كانت» الذي تحرّى
4
في سعيه لتحديد مبدأ أخلاقي عام أن يستبعد طبائع الناس، فهي
كافة مسببة حسب رأيه وليست من صاحبته سيداً لها، فانتهى به
الأمر إلى المبدأ القائل إنّه يجب عليّ أن أفعل ما أعتقد أنّه واجب
لأيّ كان لو كان مكاني أن يقوم بفعله. يكون الإنسان حسب
رأيه عندئذ سيداً لنفسه، وليس عبداً لطبائعه، ويكون عمله آنذاك
اختياراً واعياً له هو ما يميزه كعمل أخلاقي، ولا يكون العمل فيما عدا ذلكخيراً بأيّ معنى حقيقي.
ويختلف المبدأ الذي استقيناه من عالم الهمج عن مبدأ «كانت» الذي استقاه من العقل، وإن كان المنهج المتبع متشابهاً في الحالتين، بمعنى
استبعاد وجهات النظر فيما يعتبره الناس بالسليقة أو العادة خيراً أو شراً، والنظر فيما إذا كان ممكناً مع ذلك أن نخرج بحجر أساس
لمنظومة أخلاقية تجمعنا في بوتقة أخلاقية واحدة. ولو أتينا الآن للمفاضلة بين المبدأين فسوف نجد أنّ أقربهما لما يمكن تسميته بـ«العقل
التاريخي» هو المبدأ الذي خلصنا إليه، وما أعنيه بهذه التسمية هو ما وجدناه عبر التاريخ ذلك التصرف الحيواني الذي تحرّينا أن نميز
أنفسنا عنه كوننا بشراً، والذي ما زلنا نعتبره مقياساً لما لا نستسيغ التشبّه به، وبالرغم من أنّنا لا نستسيغ التشبه بكثير من أفعال الحيوانات
الأخرى، فأشدّ المكاره التي نلحظها لديها هي الفتك كما سبق دونما اعتبار للضحية، وهذه الحال العدوانيّة التي يسعى فيها كلّ فرد لنفسه
هي ما استرعى اهتمام فلاسفة العقد الاجتماعي أساساً، وبالتالي فإنّ استنباطنا لمبدأ أخلاقي يمكننا الاسترشاد به من تلك الحال أقرب
ّ (والمفارقة هنا أنّ هذا التجريد أمر حاول «كانت» تجنبه
إلى فهمنا وتاريخنا الذهني من مبدأ يتطلبتجريداً من عالم فعلي إلى عالم غير ح
بأكثر ما يستطيع).
والذي قادنا إلى هذا الاستنتاج هو موضوعنا عن الحضارة والهمجيّة، والاعتقاد السائد أنّ الإرهاب والعنف الداعشي والقصف
بالطائرات دونما تمييز بين عسكري ومدني هو الذي يتصفحصراً بالهمجيّة، لكنّ الذيخلصنا إليه هو أنّنا إذا ما دققنا النظر فسوف نجد
أنّ ما يمكن اعتباره همجيّاً في ناية الأمر وراء اعتقادنا ذلك هو فقط تلك اللامبالاة التي يتّصف بها الكائن في معرض نيله ما يطمع به،
وإذا كانت الحيوانات الأخرى لا يمكنها تجنب ذلك، فالبشر بالأغلب يستطيعون، وفقط عندما يفعلون ذلك نستطيع القول إنّم حققوا
إنسانيتهم، وأصبحت أفعالهم بالحق حضارية (الآن بالمعنى القيمي الإيجابي، وليس كوصف فقط)، ولكننا نستلّ هذا القول ليس ممّا
نعتقد أنّه ينبغي أن يكون عليه الأمر في المطلق العقلي (الواجب العقلي)، وإنّما من خلال تمحيصتفاعلاتنا التاريخية مع الكائنات الحيوانية
الأخرى من حولنا، ومسعانا الفعلي لعدم التشبه بها، فمبدؤنا وإن كان عقليّاً بواسطة الاستنباط، فإنّه يبقى حسيّاً/تجريبيّاً.
نحن إذ نصف التصرف الداعشي بالهمجي
فنحن نفعل ذلك ليس بسبب المناظر المقززة
التي نشاهد، بل تأسيساً على المبدأ الذي
حددناه، وهذا هو المبدأ نفسه الذي يمكننا من
محاكمة أفعال الدول التي تلجأ لاستعمال القوة
دون أن يكون استعمالها ضرورياً، أكان في
ساحات دول أخرى أو في ساحاتها ضد أبناء
شعبها
الحضارة والهمجيّة: الاستنباط العقلي من العلاقة بينهما




