ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
148
2016 )9(
العدد
بواس بأنّ لجميع البشر، بصرف النظر عن الانتماء العرقي والجغرافي والزماني، القدرة ذاتها على الإبداع، فالفوارق والاختلافاتلا تعني
البتة أنّ ثمّة أفضلية لجنس أو ثقافة على أخرى، لأنّ تطوّر بعضها وتخلّف أخرى هو نتيجة لاختلاف العوامل التاريخية والبنى الثقافية
ولا علاقة لهذا الاختلاف بالعامل الإثني العرقي. وقد مثّلت هذه الفكرة حجر الأساسفي فكر بواس، يعود إليها كلّ حين، ففي كتابه
كشف النقاب عن مساوئ المقارنة التطورية التي تجاهلت الخصوصيات
Race, Language and Culture
«العرق واللغة والثقافة»
الثقافية، وأصرّت على القول إنّ الثقافات والشعوب تقوم على بنية خطية تصاعدية، ففي الأعلى نجد الثقافة الغربية التي بلغت طور
التمدن والتحضر، وفي الأسفل يكون المتوحّش، وهو تقسيم وجّه له بواسضربات قاسية عندما اشترط على الباحث المقارن الوعي
بالعوامل المؤثرة في بنية المجتمعاتوالشعوب التي يدرسها، وهو أسلوب يقود إلى إثبات أنّ الفوارق الثقافية ليست فوارق بيولوجية أو
عرقية وإنّما هي نتيجة اختلافوجوه تفاعل الإنسان مع الواقع (الجغرافيا، البيئة، الشعوب المحاذية له)، وهو ما من شأنه أنْ يكون وراء
اختلاف البشرفي التربية والعادات والطقوس الاجتماعية والدينية. وبهذه الطريقة استطاع بواس تقويض المركزية الثقافية الإثنوغرافية.
وهو تصوّر استفاد منه أعلام الأنثربولوجيا البنيوية المعاصرة، ونخصّ بالذكر منهم كلود ليفي ستراوس الذي رفض، بتأثير من
المقاربة الانتشارية والمقاربة الوظيفية، مسلّمات المقاربة التطورية، فلجميع الشعوب منطقها الخاص بها، الذي تبني عليه ثقافتها، فما
نخاله ضرباً من البدائية هو في الحقيقة إشارة واضحة إلى جهلنا بطبيعة المنطق الذي تقوم عليه الثقافات التي تخالفنا في القيم والعادات
أنْ يكون هناك علاقة بين ازدهار مجموعة من الثقافات البشرية ووجود تفوّق عرقي لها. مؤكّداً
19
والتقاليد، نافياً في «العرق والتاريخ»
أنّ القيم والأخلاق تقوم على معايير نسبية، ومن شأن الوعي بهذه المسألة أنْ يؤدّي إلى نفي المفاضلة بين الثقافات البشرية، والإقرار بأنّ
التعاون والتواصل بين المجتمعات من أهم مصادر التطور والنمو الثقافي الذي لا يتحقق إلا في ظروف انفتاح الثقافات البشرية على
بعضها بعضاً، وهو ما يقتضي النأي عن الانخراط في الخطاب العنصري.
ولإبراز ذلك أكّد كلود ليفي ستراوسعلى أنّ الاختلافجوهر الإنسان، فالاختلافلا يقتصرعلى الثقافات بل موجود أيضاً داخل
الثقافة الواحدة التي تمتلك تاريخاً واحداً وتستلهم قيمها ومفاهيمها من أفق واحد. وفي تلك الملاحظات إشارات إلى أنّ قضايا التنوّع
الثقافي قد أسيء فهمها، فهي ظاهرة طبيعية، والنتيجة التي توصّل إليها كلود ليفي ستراوس تتمثل في أنّ الانتقال من الطبيعة إلى الثقافة
وإنْ كان انتقالاً من النيئ إلى المطبوخ لا يعني بالضرورة وجود تعارض بين الطبيعة والثقافة، فالمجتمعات على اختلافضروبها تسعى
دائماً إلى تجديد قيمها وقواعد حياتها. وخير مثال على ذلك شعوب أمريكا القديمة التي وظّفت الطبيعة ومكوّناتها، وذلك بتدجين
الحيوانات والنباتات، ووضعت نظماً سياسية وسنّت القوانين التي تسّ مختلفمجالاتحياة أفرادها.
من هذا المنظور فإنّ الطقوس والعادات تحمل مدلولات حضارية تتيح للباحث تفسير مجموع القيم الأخلاقية والقواعد (الزواج،
الدفن) والمحرّمات والمنتجات المادية، وهو ما يوفّر للأنثربولوجيّ دراسة الإنسان من مستويات عديدة منها النّفسي والاجتماعي
.
20
والدّيني
فتح كلود ليفي ستراوس أمام البحث الأنثربولوجي مسارات جديدة تمّ بموجبها تناول الظواهر الثقافية المختلفة بآليات موحدة،
وانطلاقاً من مقاربة واحدة تتعامل مع الظواهر الثقافية المنتمية إلى فضاءات مختلفة باعتبارها ظواهر لها البنية نفسها، وفيما يتعلق بهذه
المسألة نشير إلى أنّ ما قام به ليفي ستراوسلا يعني بأيّ حال من الأحوال أنّه ساوى بين الثقافات والشعوبفي القيمة.
19. (Claude) : Race et histoire, Gallimard, Collection Folio essais, Paris, 1987. Lévi-Strauss.
20. Lévi Strauss (Claude): la pensée sauvage, Librairie Plon, Paris, 1962, P 103.
البشير الحاجي




