ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
149
2016 )9(
العدد
إنّ الرّؤى المختلفة التي حاولت تجاوز الطوق الذي فرضته
القراءات القديمة المتصلة بالأنظمة الكولونيالية لم تستطع التغلغل
في بنية الفكر الغربي، ولكنّها مثّلت نقطة بداية استند إليها منظّرو ما
بعد الحداثة الذين حذّروا من الإفراط في الاعتداد بالنفس والثقة
المبالغ فيها في الحداثة، وهو ما ينذر بـ«موت الإنسان».
وفي هذا السياق تجلّت دعوات عديدة إلى إعادة فهم منزلة
الإنسان وما يربطه بالعالم وبالآخر، ومن أهم ما نادت به القراءات
المعاصرة ضرورة تجاوز البعد الواحد الذي يُفقد الأشياء جوهرها
ويطمسخصوصياتها، وذلك بالعمل على اختزالها في جملة من الثوابت التي تحجب التنوّع أو تقلل من شأنه. وللخروج من هذه الدائرة
)، أيتجنّب اختزال المكوّنات الثقافية
la pensée complexe
المغلقة اقترح إدغار موران جعل المعرفة معرفة مركّبة (نظرية الفكر المركّب
في قوالبجامدة تردّها إلى الكلّ، فالمعرفة المركّبة هي تأليف وتحليل، هي حركة من الجزء نحو الكل، ومن الكلّ نحو الجزء، فالكلّ يبّ
.
21
ماهية الأجزاء التي يتشكّل منها، وفي المقابل تؤلّف الأجزاء مجتمعة وَحدة الكلّ
إنّنا مع إدغار موران إزاء الوحدة المركّبة، فالأجزاء المتعددة (البيولوجي، الاجتماعي، السياسي، النفسي، الثقافي) هي أساس الوحدة
المركّبة. فالتنوّع الثقافي في تقدير موران هو المعنى الحقيقي للوحدة الإنسانية، فالوحدة الإنسانية في أرقى معانيها هي التنوّع الثقافي
والديني. وهو ما يمثّل نقداً واضحاً للعولمة التي نادت بالكونية باعتبارها شكلاً من أشكال التماثل بين الثقافات والشعوب والأمم.
من الخطأ جعل
22
وفي ظلّ هذا الالتباس تتجلى أهمية الحديث عن شروط التلاقي والتواصل بين الثقافات، ففي تقدير بول ريكور
اللقاء بالآخر رهين فرضيتين، وهما: الذوبان فيه أو الانزواء عنه والانغلاق على الذات. وطالما أنّنا لم نع الهدف من التواصل مع الآخر،
فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل المراد من اللقاء التعرف إلى الآخر أم نريد استيعابه أم نريد التفاعل معه باعتباره طرفاً فاعلاً في العالم له
رؤاه وتصوراته للحياة وللوجود؟
لا بدّ من وضعشروط واضحة للقاء بالآخر، ولكي نفهم الآخر لا مفرّ من تأصيل الذات من ناحية، ومن ناحية ثانية لا بدّ من الوعي
بأنّ الوعي بالذاتلا يتحقق إلافي اللحظة التي نقرّر فيها الانفتاح على الآخر الحضاري والتفاعل معه باعتباره الوجه الآخر للذات التي
تنتفي عند محوه وإلغائه. فأنْ نطلبمن الآخر أنْ يكون امتداداً لنا ونسخة منّا محو للهويّة التي تعّ عن مسارات الذاتفي التاريخ وكيفية
بنائها لذاكرتها ومختلف صور تفاعلها مع العناصر والتجارب. فإذا بالتعايش بناء لعلاقة بين الأنا والآخر قوامها الاعتراف بالتنوّع
والتكامل، وفي ذلك تجاوز واضح للمركزية الثقافية، فالأنا لا يكون له وجود ما لم يعترف بوجود الآخر وقدرته على التأثير فيه (الأنا).
لقد تبّ للفكر المعاصر أنّ الصراع بين الحضارات في جوهره صراع ثقافي قبل أنْ يكون أيديولوجياً أو اقتصادياً، ذلك ما عّ عنه
بجلاء صمويل هنتنغتون أحد أهم منظري السياسة الأمريكية (حزب المحافظين) الذي ذهب إلى القول إنّ الفكرة التي تطالب الشعوب
غير الغربية بتبنّي القيم والمؤسسات والثقافة الغربية هي في جوهرها دعوة لا أخلاقية، ويعود ذلك إلى أنّ النفوذ الكلي للأوروبيين على
العالم خلال القرن التاسع عشروهيمنة الولايات المتحدة في القرن العشرين قد أدّيا إلى هيمنة النموذج الغربي على العالم، وقد ساهم ذلك
21- Morin (Edgar) : Introduction à la pensée complexe, Ed Points, Collection Points Essais, Paris, 2014, Ch I.
22- Ricoeur (Paul): Soi-même comme un autre, Seuil, Collection Ordre Philosophique, Paris, 1990, P 13- 14.
ّ والتّشريع للمدّ الاستعماري
ثنائيّة الهمجي والمتح
استغل الفكر الاستعماري القديم والجديد
المعرفة لخدمة مصالحه، وقد لاقت مقولات
الأنثربولوجيا التطورية هوى في نفوس دعاة
الإمبريالية التي جددت أثوابها ونزعت عنها
دعاوى التحديث، ولبست بدلاً منها محاربة
الإرهاب والدكتاتورية.




