ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
156
2016 )9(
العدد
أهمية لأن تكون الحقيقة وليدة نظر عقليسليم أو هي اختبار تجريبي مؤكد، ولكنّ الأهم أن تكون مستجيبة لطاعة الكنيسة وعدم الخروج
على ما وافقته وأقرّته، يقول الدكتور توفيق الطويل: «فإذا تجلى لأستاذ الجامعة بطلان رأي شائع معتمد وأضحى على يقين من ذلك، كان
ّ به أحداً من تلامذته
عليه أن يجاري العرف الذي يقضي بالتزام التعليم السلمي في الجامعات، وأن يحبس الرأي في حنايا نفسه، ولا يب
أو سواهم، كما فعل الكثيرون من أمثال رينولد في منتصف القرن السادس عشر، وكان على الأستاذ الذي يكشف خطأ رأي مألوف أن
.
12
يغادر منصبه في الجامعة ...، وإلاّ أُرغم على ترك منصبه»
وهكذا نصّبت الكنيسة نفسها رقيباً وحسيباً على ما ينتجه العلماء والمفكرون في كافة المجالات، وتباهت الجامعات بأنا لم تأذن بإدخال
الفكر الجديد في برامجها التعليمية، بل ا ّم كلّ من يخرج عّ ارتضته الكنيسة بالهرطقة والمروق من الدين، ومن ثمّ تجب محاكمته محاكمة
رادعة ليكون عبرة لغيره ممّن يريد أن يحذو حذوه؛ ممّا عطّلَ أدوات البحث والاجتهاد، وفرض رجال الدين قيوداً شاملة على العلماء
وحرموهم من مزاولة أي نشاطخارج ما تسمح به مبادئ الكنيسة المسيحية، فكانت نتيجة ذلك اتهام الكثير من العلماء بالهرطقة وممارسة
.
13
السحر. بل إنّ سلوك أيّ منهج معارض للكنيسة كفيل بأن ينال من السمعة أو يقضيعلى الحياة
وقد توافقت الرؤية الكنسية مع الفلسفة الأرسطوطالية، فاعتمدتها الكنيسة ورأت أنّ كلّ من خرج عليها فهو زنديق مُهرطق، حتى
) كان قد أعد دراسته للماجستير بعنوان «كل ما قاله أرسطو وهم وضلال»،
1572
-
1515
أنّ أحد الدارسين وهو «بطرس ريموس» (
وتطرّف فيها في هجومه على أرسطو، فضاق به أتباع أرسطو من المتعصبين الدينيين واغتاله أحدهم ليلاً.
في ظلّ هذا المناخ المثبط المعادي للعلم والعلماء الذي لم يكن قاصراً على مستوى الكنيسة الكاثوليكية، بل طال البروتستانتية أيضاً،
فمن المعروف أنّ مارتن لوثر وكالفن (أبرز مؤسسي المذهب البروتستانتي) رفضا نظرية كوبرنيكوس في الفلك بدعوى أنا مخالفة لما
جاء في الكتاب المقدس، في ظلّ هذا المناخ كان من الطبيعي أن ينتشر الجهل والخرافة والتنجيم والشعوذة، فدخلت الكتب الرخيصة كلّ
بيت قارئ مؤكدة إمكانية تحويل المعادن الرخيصة ذهباً، وساد الدجالون معظم أنحاء أوروبا يبيعون الأحجبة الواقية من الساحرات
والشياطين، حتى أقبل الجند على التعاويذ والطلاسم التي تكفل تحويل رصاص البنادق عن هدفها، كما استخدمت النذور والهبات
المقدّسة للكنيسة للنجاح والنصروتقلد الوظائف المرموقة والزواج وغيرها، وانتشر المنجمون بشكل غير مسبوق، «فقد كان في باريس
ثلاثون ألف مُنَجّم في القرن السادس عشر كلهم على استعداد لكشف الطالع لقاء قطعة من النقود...، حتى أنّ فرانسوا الأول وكاترين
دي مديتشيوشارل التاسع ويوليوس الثاني وليو العاشروأدريان السادسكانوا كلهم يستشيرون المُنَجمين، وقد غّ «ملانكتون» تاريخ
.
14
مولد «لوثر» ليهيئ له طالعاً أسعد، وتوسّل إليه ألا يسافر والقمر هلال»
ومن ثمّ كان من الطبيعي في مناخ كهذا أن يضطهد العلماء، وقد نُسِب قول إلى العالم المتوفى «وكليف» أنّ عمر الأرض أكبر من اعتقاد
عام قبل ميلاد المسيح، والمسيح
4004
الكاثوليك الذين رأوا - بعد أن حسبوا أعمار الأنبياء والفروق الزمنية بينهم- أنّ عمر الأرض
ميلادية، فما كان من الكنيسة إلا أن أمرت بإخراج رفاته من مقبرته
4004
هو المركز أو نقطة وسط الكون ولذلك سينتهي العالم عام
وتمّ طحن عظامه ونثرها في البحر حتى لا تُنجّس بها الأرض. واعتقدوا أنّ الكوارث الطبيعية من أعاصير وزلازل وبراكين من صنع
م أمراً بقتل جميع الساحرات، ثم
1484
الساحرات اللاتي يساعدن الشياطين في صنعها، ولذلك أصدر البابا (أنوسنت) الثامن في سنة
.36
، ص
2011 ،
- توفيق الطويل، قصة النزاع بين الدين والفلسفة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب
12
13- Look, Andrew Dickson White, New Chapter in the Warfare of Science , Popular Science, Vol.42, No.10.Dec, 1892,p.153 .
، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،
27
- ول ديورانت، قصة الحضارة ـ الإصلاح الديني/ بداية عصر العقل، ترجمة فؤاد أندراوس، المجلد الرابع عشر، الجزء
14
.117
، ص
2001
غيضان السيد علي




