ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
159
2016 )9(
العدد
فإن تاب الفيلسوف أو المفكر اكتفوا بتحقيره، أو جلده، أو ألبسوه لباس الخزي والعار، وإن أصرّ على رأيه وحاول الدفاع عن نفسه
نكّلوا به وحكموا عليه وعلى أسرته بالصلب حتى الموت ثم التحريق، أو بالتحريق فقط حيّاً، أو بالسجن في جُبّ مكبّلاً بالأغلال، لا
.
22
يرى النور، وطعامه من غسلين، وشرابه من حميم
وكان من الوسائل الفعّالة في مطاردة المارقين «فرمان الإيمان» الذي جنّد الناس في خدمة ديوان التحقيق أو محاكم التفتيش،
وحتّم على كل امرئ أن ينهي إلى مركز هذا الديوان كلّ ما يبلغه من شأن الملحدين من غير تردد أو تباطؤ، وللمقصرين عقابهم
الدنيوي والروحي معاً، ومن أجل هذا لم ينجُ أحد من اشتباه جيرانه وإساءة الظن به حتى في نطاق أسرته، ولم يكن أبرع من هذه
الحيلة الماكرة في قهر السكان جميعاً وشلّ تفكيرهم وردّهم إلى الطاعة العمياء، فإنا رفعت التجسس إلى مرتبة الواجب الديني
.
23
الخليق بالإكبار
وهكذا تمّ خنق الفكر الحر وسادت الهمجيّة والوحشيّة، وتمّ تحريم كلّ طريقة معقولة لتوكيد الحقيقة، فلم يكن المتهم بريئاً حتى
تثبت إدانته، بل اعتُبر كلّ سَجين مذنباً؛ ومن ثمّ أوكلوا إليه عبء التدليل على براءته. وكان قاضيه هو المدّعِي عليه، وكلّ من تقدّم
للشهادة ضده قُبلت شهادته، ولو كان من أرباب السوابق، وكانت قواعد ادّعاء الشهود عليه مرنة، وعلى عكسها كانت القواعد
التي وضعت لرفض شهود الدفاع، فمن حق اليهود والمغاربة والخدم والأقارب حتى الدرجة الرابعة أن يقدّموا ضدّ المتهم أدلة
تثبت إدانته، ولكنهم ممنوعون من الشهادة لصالحه، والمبدأ الذي اعتنقته محكمة التفتيشكان يقول: لأن يُدان مائة بريء زوراً وبهتاناً
ويعانون العذاب ألواناً، خيرٌ من أن يهرب من العقاب مذنبٌ واحدٌ. ومن أَسهم في تقديم الوقود الذي ُرق به المُلحد فقد استحق
.
24
المغفرة
والحقيقة أنّ هذه المحاكم الوحشية القاسية قد أُنشت منذ البداية للمسلمينفي أسبانيا بعد سقوط ممالك الأندلس، ولم يروا بأساً في أن
تشمل اليهود، وكان هؤلاء وأولئك يعلنون عن ارتدادهم عن دينهم واعتناقهم النصرانية تقيّة، فما شفع لهم ذلك، ثم اتسع نفوذ هذه
المحاكم على كلّ من يُظهر انشقاقاً عن النصرانية من أصحاب الفكر، وخاصة الفلاسفة في إيطاليا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال وألمانيا
وهولندا، واستخدمت السلطة هذه المحاكم لتنكل بأعدائها منهم، وتزهق حرية الفكر، وتقف بالمرصاد لكلّ من يقدّم جديداً في الفكر
أو الدين أو العلم، وفي رأينا أنّ محاكم التفتيشهذه هي التي أعاقت تقدّم العلم والفكر في أوروبا طيلة العصور الوسطى، بل إنا كانت
الدافع الأول لظهور العلمانية في العالم الأوروبي.
لقد كان ما ارتكبته محاكم التفتيش في أوروبا في عصر النهضة من فظائع شيئاً مخيفاً وفظيعاً، أقلّ ما يوصف به أنه همجية من الدرجة
الأولى، حيث كان َُاكم المبدعون في الساحات والميادين وسط الجماهير الغفيرة، وكأنم خانوا الوطن والأرض والدين والعِرض،
فيُذبحون و ُرقون بلا رحمة ولا شفقة، ويتمّ التمثيل بجثثهم فتقطع أطرافهم وأعضاؤهم وتفقأ عيونم. والجدير بالذكر أنّ أصحاب
هذه المحاكم كانوا يبررون وجودها بتبريرات دينية، فالله، حسب زعمهم، عقد محاكمة لآدم وحواء وأدانما وأصدر أول حكم بحق
البشر بالحرمان والطرد من الفردوسوالنفي إلى الأرض، وأنّ المسيح حاكم الفريسيين والصدوقيين وقضىفيهم برأيه، ولعنهم في الدنيا
إلى يوم الدين، وحرمهم من مغفرة الله. فتحول الحاكم وقتها إلى إله، والبابا إلى مسيح أو خليفة له، يحمل توكيلاً مقدّساً باسمه لمحاكمة
من يراه مخالفاً.
.752
- انظر: عبدالمنعم الحفني، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، ص
22
.39
- توفيق الطويل، قصة النزاع بين الدين والفلسفة، ص
23
- المرجع السابق، الموضع نفسه.
24
مظاهر الهمجيّة والحضارة في عصر النهضة الأوربيّة




