187
2016 )9(
العدد
حوارات
حوار مع الدكتورة ناجية الوريمي بوعجيلة
محدود بحدود المقوّمات اللغويّة والتركيبيّة للنصّ. والمدخل
المنهجيّ الخاصّ بظروف إنتاج النصّ، ينير السياق التاريخيّ الذي
أدّى إلى ظهوره في إطار التعالق الثابتفيحدث الكتابة بين «اللغة
والتاريخ»، إنّهشرط لفهم العوامل الموضوعيّة التي حدّدت كيفيّة
تشكّل النصّ ووجّهت أهدافه. والمدخل الخاصّ بكيفيّة تقبّله له
مزيّة تفكيك الآليّات التي تخضع لها عمليّات الفهم والتأويل وفق
الأفق الفكريّ الذي يتحرّك فيه المتقبّل، أي وفق الظروف التي
تجري فيها عمليّة الفهم.
إنّ كلّ هذه المداخل المنهجيّة في قراءة نصوصالتراثوتأويلها
ضروريّة ومتكاملة، لأنّ المعنى ليس منحصراً في حدود النصّ
وحده، ولافي تاريخيّته أوفي تفاعله مع المتقبّل فقط، بلهو مشروط
بها جميعاً. وبفضلها يتمكّن القارئ من تجاوز ذاتيّة التأويل بما هو
، إلى موضوعيّة التأويل بما
acte sur le texte
فعل «على النصّ»
. وتتحرّر القراءة من الإسقاط
acte du texte
هو «فعل النصّ»
الإيديولوجيّ الذي تقوم به الذات المؤوّلة، عن قصد وعن غير
قصد. وبفضل هذه المداخل المنهجيّة أيضاً، يمكن للقارئ أن
يقيم جسور تواصل بين المفاهيم أو بين الدلالات أو بين القيم،
في حدود ما تفتحه النصوص نفسها وتسمح بالتطوّر في ا ّاهه.
* أليس القول: «إنّ قراءة النص الخلدوني والرشدي تحتاج إلى
الوعي النظري والتاريخي بنوعية الدلالة وأبنيتها اللغويّة ومدارها
الفكري»، هو نوع من الدعوة إلى حصر النص التراثي في أفق
تاريخي وشروطه التداولية بدلاً من تحرير المعنى والدلالة والقذف
به (بالمعنى الذي يصوغه هايدغر) في مسالك لغوية وتأويلية
جديدة؟
لا، ليس المقصود حصر النصّ التراثيّ في أفق تاريخيّ وشروطه
التداوليّة كما ذكرتم. بل المقصود تجنّب التوجيه الدلاليّ القسيّ
الذي يمارسه بعض النقّاد والمفكّرين لإنطاق نصّ ما بدلالات
وقيم ومفاهيم هو عاجز بنيويّاً وإبستمولوجيّاً عن إنتاجها.
والنموذجان المذكوران: ابن رشد وابن خلدون، مثلاً، لا ينتميان
إلى المنظومة الفكريّة ذاتها، ولا كانت نصوصهما نتاجاً للعقل ذاته:
فنصّ ابن رشد هو وليد عقل فلسفيّ رافض لأيّة سلطة توجّه
الفعل المعرفيّ، غير سلطة العقل بالمفهوم السائد في عصره. بينما
نصّ ابن خلدون هو وليد عقل فقهيّ، ما «العقل» فيه سوى
خادم لسلطة النصّ المطلقة، ولسلطة الماضي المطلقة أيضاً. ومن
هذه الناحية، وإذا اتّفقنا على أنّ منشروط التحديث توفّر العقل
النقديّ، والتخلّص من سلطة الماضي (لا من الماضي في حدّ
ذاته)، أمكن لنا في قراءتنا للنصّ الرشديّ «تحرير المعنى والدلالة
والقذف بهما في مسالك لغوية وتأويليّة جديدة»، كما ذكرتم.
وذلك في نصوص الحقل الفلسفيّ وفي نصوص سائر الحقول
المعرفيّة التي تلتقي في فعل التفكير الحرّ.
ولحسم هذه المسألة فإنّنا فيحاجة إلى توضيحجوانب أخرىفي
القراءة والتأويل: فـ«تحليل النصّ»، هو مرحلة مقابلة ـ في عملها
وفي منطقها- لمرحلة «إنتاج النصّ». المنشئ يتّخذ وجهة التشكيل
وتحويل المحتوى المعرفي إلى رموز لغويّة ذات نظام
construction
déconstruction
واع ومقصود، والقارئ يتّخذ وجهة التفكيك
للكشفعن منطق هذا النظام وغاياته فيضوء الظروف التاريخيّة
الحافّة بعمليّة الإنتاج. ويقوم التحليل على فعلين: فعل «التفسير»
وهو استثمار للمكوّنات المباشرة للنصّ، وفعل «التأويل» وهو
التطوير الدلاليّ للنصّ بما يتماشى والمميّزات الفكريّة والنفسيّة
لكلّ قارئ. فالتأويل هو الجانب الإبداعيّ في كلّ قراءة، من حيث
réveil du sens du
هو حوار القارئ مع النصّ «لإحياء معناه»
وهو إحياء متفاعلٌ مع ثقافة العصر وقيمه، ومساهمٌ في
texte
إبراز التواصل بين الدلالات والمفاهيم التي قد تختلففي تقديمها
لمحتويات معرفيّة متنوّعة، لكنّها تظلّ مشدودة إلى الآليّات
الفكريّة ذاتها المنتجة للمعرفة.
* إذن كيف يمكن، بناء على ما قلت، الحديثعن المعنى بالغلبة
والمعنى المهمّش، وكتابة تاريخ مضاد لتاريخ الفكر الإسلامي
العربي «الرسمي»؟
تجدر الإشـارة أوّلاً إلى أنّ دواعي انتشار الأفكار وهيمنتها في
ثقافة كتابيّة تعلي المقدّس، وفي أنظمة سياسيّة تجيد توظيفه، ليست
قائمة على مدى معقوليّتها ولا على مدى خدمتها «للمعرفة»
و«للإنسان»، بقدر ما هي قائمة على خدمة سلطة هدفها الحفاظ
على استقرار يفيدها. وهنا نحن في حاجة إلى التمييز بين «عقل
سياسيّ» وعقل معرفيّ. الأوّل ينتج معرفة وظيفيّة تهيمن على
المجال التداوليّ بحكم الرعاية التي تجدها، وبحكم إعادة الإنتاج
غير النقديّ لمسلّماتها، فيختفي فيها الطابع «السياسيّ» ويظلّ




