192
2016 )9(
العدد
يمكن إحصاء النقاشالعارم الذيطبع تاريخ الفكر الكلاميفي
الإسلام، لأنّ هذا يتطلب مساحة واسعة ليس مكانا هنا، لكن
حسبنا أن نشير إلى أنّ الحلول التي قدّمها ابن عربي مثلاً تدخل
كلها في هذا الذي نسميه «التشاكل». المنطلق هو صيغة مقتضبة،
لكنها حُبلى بالدلالات: «هولاهو». يكتببشأن ذلك: «إنّ مبنى
الأمر الإلهي أبداً على هو لا هو، فإن لم تعرفه كذا فما عرفته «وما
رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى»، فهذا عين ما قلناه من أنه هو لا
4
هو، وهنا حارت عقول من لم يشاهد الحقائق على ما هي عليه»
. تضعنا هذه الفكرة أمام ورطة منطقية وهي «تواطؤ النقيضين»
أو «علم تآلف الضرّتين» كما س ّه ابن عربي؛ وأمام ورطة
أنطولوجية من حيث إنّ الإله هو عين الموجودات وما هو عينها
في الوقت نفسه، فهو هي من حيث إنّا لا تقوم دونه وتفتقر في
وجودها إليه، وليس هو هي لأنّه لا يتّحد بها ولا يكون عين
هويتها.
مجاوزة الورطتين كفيل بفهم أنّ ابن عربي يتكلّم من منطلق
الخيال الذي منحه قيمة ميتافيزيقية وجمالية هائلة. يوضّح مبرّر
الجمع بين النقيضين، ابتداءً من هذه العتبة الخيالية، التي ليست
مجرّد عتبة في التلفيق أو الاختلاق. إذا كان هنري كوربان قد س ّها
«خيالاً خلاقاً»، فلأنّ وراء التلفيق بين الحقائق المتناقضة أو اختلاق
حقائق غير موجودة ثمّة خلق جديد يجعل الحقائق تتشاكل، تتلاقى
وتتلاقح، دون أن تفقد من تعيّنها أو فرديتها: «ليس ثمّة في طبقات
العالم من يعطي الأمر على ما هو عليه سوى هذه الحضرة الخيالية،
فإنّا تجمع بين النقيضين، وفيها تظهر الحقائق على ما هي عليه، لأنّ
الحق في الأمور أن تقول في كل أمر تراه أو تدركه بأي قوّة كان
الإدراك أنّ ذلك الذي أدركته هو لا هو كما قال «وما رميت إذ
رميت». فلا تشكفي حال الرؤيا في الصورة التي تراها أنّا عين ما
قيل لك إنّه هو، وما تشكفي التعبير إذا استيقظت أنّه ليسهو، ولا
تشكفي النظر الصحيح أنّ الأمر هو لا هو. قيل لأبي سعيد الخراز
«بمَ عرفت الله؟ قال: بجمعه بين الضدّين». فكلّ عين متصفة
بالوجود فهي لا هي، فالعالم كله هو لا هو، والحق الظاهر بالصورة
هو لا هو. فهو المحدود الذي لا ُدّ، والمرئي الذي لا يُرى وما
.
5
ظهر هذا الأمر إلا في هذه الحضرة الخيالية»
(دار صادر، بيروت، د. ت.).
343
، ص
2
- ابن عربي، الفتوحات المكيّة، ج
4
379
، ص
2
- المرجع نفسه، ج
5
إنّ حضرة الخيال هي الحضرة التي تجمع بين النقيضين، لأنّ
طبعها يعطي ذلك، فهي حضرة الصورة الجامعة لكلّ الأكوان
والألوان. ليس غريباً أن يكون اسم الخيال (بالمعنى الأنطولوجي
الواسع) هو «المصوّرة» (بالمعنى المعرفي أو الإبستمولوجي
الحصري). بين الخيال والصورة هناك رابط بدهي، لأنّ الكون
وُجد على الصورة، فهو يتشاكل مع المكوّن الذي أوجده، فكان أن
ظهر الإنسان على صورة الحق. جاء تسويغ هذه «الهويّة السالبة»
من إسفار ابن عربي عن الآية «وما رميت إذ رميت ولكنّ الله
)، وهي آية تحقّق هذا التشاكل الحامل لمشكلة
17
رمى» (الأنفال،
رمي النبي للتراب في اتجاه الأعداء وعدم رميه، لأنّ الرمي هو
من فعل الإله. بهذا الاعتبار، تأتي عبارة «هو لا هو» في صيغة
مرآوية تقول بعُمق الجمال الكامن فيها والجلال القائم عليها. إنّ
الصيغة المرآوية هي صيغة برزخية أو خيالية، لأنّ الهو المنعكس
في المرآة عبارة عن هو شبحي، يضاعف الهو الحقيقي أو الواقعي،
يشابهه، لكن ليس هو بالضبط. يمكن القول إنّ بينهما تشاكل،
يتماثلان في الشكل ويختلفان في العينية أو الفرادة. عندما نقرأ في
قاموس اللسان العربي، نجد أنّ الخيال له دلالة تفيد الشبحية أو
الطيفية التي تحدثنا عنها. نقرأ مثلاً: «الخيال والخيالة: ما تشبّه لك
في اليقظة والحلم من صورة [...] والخيال والخيالة: الشخص
والطيف. الخيال لكلّ شيء تراه كالظل، وكذلك خيال الإنسان
.
6
في المرآة، وخياله في المنام صورة تمثاله»
غير أنّ الشبحية أو الطيفية لا تفيد الحلم الفاسد،
وإنّما تكتسي قيمة خَلقية، جمالية وأنطولوجية، تعّ عن
الطابع الخلاّق للوجود من لدن واهب الصور. إذا اتفق
7
وأن سلّم ابن عربي بأنّ «الوجود كله خيال في خيال»
، فليس بحكم وهمية الوجود، ولكن بحكم مجازيته بالمقارنة مع
الوجود الحقيقي للخالق، على غرار مجازية الهو المنعكس في المرآة.
فالصيغة المرآوية لعبارة «هولاهو» تقولحقيقة الهو الأول ومجازية
الهو الثاني. فكأنّ الهو الأول يرى نفسه في مرآة تعكسه: هو هو،
ويكون الهو المنعكسمقلوباً، مثلما يكون ظاهر الحق باطناً في الخلق
أو باطن الحق ظاهراً في الخلق. نجد أنفسنا أمام «تشاكل كياسمي»
.1307-1306
- ابن منظور، لسان العرب، دار المعارف، القاهرة، د. ت، ص
6
- ابن عربي، فصوص الحكم، تحقيق أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي،
7
104
بيروت، ص
محمد شوقي الزين
مقالات




