193
2016 )9(
العدد
تكون فيه الأشياء معكوس غيرها دون أن تكون العكس أو
) الذي
chiasme
النقيض. يتطلب الأمر معرفة ما هو الكياسم (
نتحدّث عنه؟ مفردات التصالب، التقاطع، التداخُل، التشابُك،
تقول سيمانطيقا هذا المصطلح الذي نقله ميرلوبونتي من الأسلوب
البياني (مثلاً، عبارة موليير: «أن نأكل لنعيش، لا أن نعيش لنأكل»؛
عبارة غاندي: «أن نحيا ببساطة، لكي ببساطة أن يحيا الآخرون»؛
مثل إنكليزي: «القراء لا يسقون واللصوص لا يقرؤون») نقله
إلى التفكير الفينومينولوجي. ينبني الكياسم على رباعية في الحدود
، وهذا التقاطع من شأنه أن يفكّر «ليس
ABBA
في شكل تقاطُع
في الهويّة، وليس في الاختلاف، وإنّما في الهويّة داخل الاختلاف
(أو الوحدة عبر التعارُض) لحدود يتمّ التفكير فيها عادةً بشكل
منفصل، مثل الرائي والمرئي، العلامة والمعنى، الداخل والخارج،
.
8
حيثلا يكون أحدهما دون أن يكون الآخر»
ها نحن أولاء، من جديد أمام صيغة أخرى تقول: التشاكل
إلى جانب اللادونية التي سيأتي ذكرها. إنّ من شأن الكياسم أن
يجعل العلاقة بين الحدود غير قائمة على الهويّة ولا على الاختلاف،
لكن على إدماجهما معاً، حيث يكون التماثُل بين الثقافات في عين
الاختلاف الفردي أو المتفرّد بينها، ويكون الاختلاف بينها في
عين التماثُل الإنساني الجامع بينها. الكياسم خاصية استعارية (فهو
صورة)؛ وليس خاصية منطقية. ليس من السهل فقه الكياسم،
لأنّه ينطبق على حالات تفلت من البراديغم الأرسطي. لذا، فهو
يرتع وينتعش في مجالات أخرى مثل العرفان كمجال نظري، أو
الفينومينولوجيا كمنهج فلسفي. لهذا الغرض جعله ميرلوبونتي
خاصية أساسية من الكائن القائم على متقابلات متداخلة كالظاهر
والباطن المتناقضين في البراديغم الأرسطي، لكن المتداخلين في
البراديغم العرفاني. إذا كان المنطلق عند ميرلوبونتي حسّياً في
دلالته، لأنّه يستحضر العلاقة الكياسمية بين اللامس والملموس
عندما يكون الملموس نفسه اللامس مثل الجسد؛ فإنّ النتائج
الفلسفية لهذه العلاقة الكياسمية تتعدّى البُعد الحصري للإدراك
الحسي نحو البُعد الأوسع للإدراك الحدسي أو العرفاني. يفسّ هذا
الأمر شيوع النمط الكياسمي في النص العرفاني، عندما نقرأ على
سبيل المثال: «وإّ ما أزال في هذا الكتاب أخاطبني عني، وأرجع
8- Pascal Dupond, Le vocabulaire de Merleau-Ponty, Paris,
Ellipses, 2001, p. 6
فيها إليّ مني، فمن سماي إلى أرضي، ومن سُنتي إلى فرضي، ومن
إبرامي إلى نقضي، ومن طولي إلى عرضي، ولهذا أقمتُ القسطاس،
.
9
وراقبتُ الأنفاس»
يستحضرابن عربي في قصيدته «رسالة الاتحاد الكوني» مجموعة
من المتناقضات التي تتمفصل فيما بينهما في وحدة جامعة، ونألف
في هذه القصيدة سلوكاً كياسمياً بارعاً يغنينا عن الأحكام المسبقة
حول عرفان غارق في النرجسية بحكم المرآوية التي يستحضرها
. بهذا المعنى، لا يمكن قراءة هذه النصوص العرفانية
10
بكثافة
ذات البنية الكياسمية من منطلق البراديغم الأرسطي، لكن تبعاً
لما اصطلحتُ عليه اسم «البراديغم الرواقي» الذي يوفّر أدوات
وأساليب أكثر ثراءً ووُسعاً من حيث الحكم والقيمة. يوفّر هذا
) بتداخُل الحقائق
interpénétration
البراديغممجالاً في التوالج (
im�
في بعضها بعضاً يوفّرها المصطلح «كياسم» نفسه: تراكب
(
)، ارتدادية
alliage
)، تسبيك (
entrelacs
)، تشبيك (
brication
)، إلخ . التوالج بينيوبين العالم هو أنّنيفيخارج
réversibilité
(
العالم بقدر ما يكون العالم في داخلي. هذه الفكرة التوالجية رواقية
في مبدأها، ضلعت فيها بعض الفلسفات العريقة التي كانت
تعتبر الكوسموس (الكون) والأنثروبوس (الإنسان) متداخلين
تحت المسمّى «الإنسان الكبير» وهو العالم، و«العالم الصغير» وهو
الإنسان (نميسيوس، إخوان الصفا، ابن عربي،... إلخ). أحدهما
صنو الآخر، لأنّ أحدهما مرآة الآخر، وأكثر من ذلك، أحدهما
متوالج في الآخر بقيمة كياسمية مدّتها الفلسفات العريقة، ومن
بينها الفلسفات الصوفية، بالعُدّة الحدسية والشاعرية.
- ابن عربي، «رسالة الاتحاد الكوني في حضرة الإشهاد العيني»، في: رسائل ابن
9
.94
عربي، ص
- مثلاً: محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية،
10
: «ومن هنا مثال المرآة الذي يكثر استعماله لدى
315
، ص
2009 ،9
بيروت، ط
العرفانيين كوسيلة تعبيرية. وبطبيعة الحال فعندما يجعل الإنسان من نفسه
مرآة له ويجعل الله مرآة أمامه ويقابل بين المرآتين، إحداهما إزاء الأخرى، فإنه
يرى نفسه في كل شيء، بل يراها وحدها صورة تعكسها المرآتان المتقابلتان بصورة
متوالية متكررة إلى ما لانهاية له. وحينئذ فلا شيء يمنعه من التلذذ والسكر
والعشق،... إلخ. يعشق نفسه كما عشق الإنسان السماوي صورته المنعكسة على
الأرض في رؤيا هرمس فيصير هو ومعشوقه شيئاً واحداً».
التشاكُل الحضاري وأنظمة الاختلاف
مقالات




