191
2016 )9(
العدد
) حيث يغترف منه العقل البشري علة التواصُل بين
1892
-
1823
(
Vladimir Vernadsky
البشر، أو كما ردكله فلادمير فرنادسكي
Pierre Teilhard de Chardin
، وبيير تيلار دو شاردان
1863
-
1945
at�
بالنظر إليه كقيمة روحية عليا تتوّج الغلاف الجوي (
1881
-
1955
) وتتجاوزهما؟ إذا كان
biosphère
) والغلاف الحيوي (
mosphère
المجال الفكري يحيط بالأرض تماماً مثل الغلاف الجوي أو الغلاف
الحيوي، فإنّ هذا المجال هو بؤرة الاتصال بين البشر من حيث لا
يعلمون، على غير دراية منهم. فالوعي البشري يتّصل بهذا المجال
ليغترف منه علة التعارُف والتواصُل، فيكون التقارُب أو التباعُد،
حسب الألفة، على شاكلة «الأرواح جنود مجنّدة» في الخبر النبوي.
planétisa�
أعطى دو شاردان لهذا التواشُج العالمي اسم «الكوكبة»
(
mondialisa�
) على صعيد الوعي البشري، شيء شبيه بالعولمة (
tion
) على مستوى التبادُل التجاري والاقتصادي والعلمي. هل فكرة
tion
المجال العقلي لها مسوّغ نظري يمتاز بالحصافة؟ إلى أي مدى يمكن
تبنّي هذه الفكرة عملياً دون أن تسقط في المجال المجرّد لأفلاطونية
متحقّقة؟
أولاً: «التشاكُل»: الأدواتوالصيغ (هولاهو، اللادونية)
قبل العودة إلى الفكرة التي طرحها دو شاردان ومناقشتها،
أطرح هنا مجموعة من الأدوات الكفيلة بتبيان سيمانطيقا التشاكُل
والأمر الذي يجعل منه مفهوماً «بينياً» (بين- ثقافات، بين- رؤى،
بين- أفكار، إلخ)، يجمع أحياناً بين المتناقضات (صيغة «هو لا
هو»)، ويجعل الأشياء لا تنفك عن بعضها بعضاً في ترابُط متحقق
(أداة «اللادونية»). قبل تفصيل هذه الأدوات أو الصيغ، بودّي،
كعتبة مبدئية، أن أحدّد معنى التشاكل بوصفه ثقافة في الاختلاف.
، على النقيضمن
2
المعضلة مع التشاكل أنّه يوهم بالتشابه أو التماثُل
الاختلاف إذن. لكنّ المدلول المعجمي لا يعطي دائماً، ولا يلبي
حاجة المدلول الفلسفي المراد اشتقاقه. كيف نبرّر إذن أنّ التشاكل
يحمل قيم الاختلاف فيما يكشف مدلوله عن عناوين التشابه
والتماثُل؟ بل، كيف نعلّل أنّ التشاكلمحايد في الصيغة والمعنى، لأنّه
يتجاوز أساساً التشابه المطلق والاختلاف الراديكالي؟ إنّه الرهانفي
نقل بعضالكلماتمن المنغلق القاموسيإلى المنفتح الفلسفي. نشير
إلى أنّ التشاكل مبني على وزن «التفاعُل»، وهذا فيحدّ ذاته مكسب
،4
- مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط
2
491
، ص
2004
ثمين، لأنّ التفاعُل يقتضيحدّين بينهما علاقة تسوّغ الترابُط. عندما
نزعم أنّ بين الثقافات أو الأفكار تشاكُلاً، فإننا نشير أقلّ إلى التشابُه
(من حيث جدل التأثير والتأثّر) منه إلى التفاعُل بين أشكال الثقافة
أو الفكر. لأنّ التشاكُل ليس قيمة ثابتة عندما نقول عنه إنّه «تشابُه»
أو «تماثُل»، بمعنى أن تتشابه الأشكال أو تتماثل في الهيئة فقط. على
العكس من ذلك، التشاكُل عبارة عن قيمة دينامية في التفاعُل بين
أشكال الثقافة أو الفكر، أيّاً كانت طبيعة هذه الأشكال من حيث
انتماؤها التاريخي أو الديني أو القومي.
كذلك، ليس التشاكل قيمة ناطقة، أي ينبغي البرهان عليه
استدلالياً والإشارة إليه بصخب الخطاب، بأن نقول إنّ هذه
الثقافة مدينة لثقافة أخرى سبقتها في الزمن والرفعة، ونبحث
بالتالي عن طريقة سببية في ربط السابق باللاحق عنوة. التشاكل
عبارة عن قيمة صامتة، يُشهَد ولا يُبرهَن عليه، لأنّ التماثُل بين
بعض الثقافات لا يخضع دائماً إلى طريقة سببية في تبيان دَين
اللاحق للسابق؛ ثمّة تماثُل هو نتيجة طفرة مبهمة، أو ارتحال
ملغز في الأفكار، كأن يُماثل اللاحق شكل السابق دون أن
يعرف بوجوده أو يفقه شرطه الوجودي واللغوي. مثلاً، لا
يمكن إرجاع التماثُل في بعض الصيغ التفكيكية بين دريدا
) إلى اطلاع مباشر
1240-1165
) وابن عربي (
2004-1930
(
على محتوى التفكير، لأنّ دريدا لم يكن على علم بوجود شخص
اسمه ابن عربي؛ وإن سمع به لم يكن يتقن اللغة العربية ليقرأ
3
متونه مباشرةً. فكيف جاء التفكيك الدريدي «متشاكلاً»
مع التفكيك الأكبري (نسبةً إلى الشيخ الأكبر ابن عربي)؟ هذا
مربض الالتباس الذي يتطلب الفك والتبيان.
«هو لا هو»: تشاكل كياسمي
في حقيقة الأمر، يعود التشاكل، في مبناه ومعناه وأيضاً في
مجلاه، إلى التفكير الكلامي الذي طرح مشكلة عويصة كانت
تتطلب حلولاً جذرية تنأى بالنفس عن التجسيم أو التشبيه،
وهي مشكلة العلاقة بين الذات الإلهية والصفات والأسماء
المرتبطة بها من جهة، وعلاقة الإله بالعالم من جهة أخرى. لا
- حول هذا التشاكل بين الفكرين، طالع: أيان ألموند، التصوف والتفكيك: درس
3
مقارن بين ابن عربي ودريدا، ترجمة وتقديم حسام نايل، المركز القومي للترجمة،
.2011 ،1
القاهرة، ط
التشاكُل الحضاري وأنظمة الاختلاف
مقالات




