ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
21
2016 )9(
العدد
. وتقول الفكرة الثالثة: إنّ هذه اللعبة العجائبية والمسلية
3
يدركها أساطين السياسة، ودهاة التخطيط الاستراتيجي في
العالم الغربي علم اليقين، ولكنهم يحاولون المحافظة على هذا
الوضع إلى أبعد مدى وأكبر وقت ممكن، لقناعتهم الراسخة أنه في
الوقت الذي يبطل فيه سحرهم سيخسون امتيازاتهم، ويتراجع
مركزهم في العالم، ليزيحوا المكان لقوى عالمية جديدة. ولذلك
فإنم يحافظون على الحروب، بل يشعلونا هنا وهناك، لقناعتهم
الكاملة أنا كلها حرائق مسيطر عليها وأماكن تجربة لحصر القوى
الجديدة أن تبقى بعيداً عن الفهم الجديد، ولذا فكل الحروب التي
تشتعل هنا وهناك، يجب أن نعلم أنا ليستتحتسيطرتنا بلتحت
سيطرتهم، وحتى عندما نبدأها فنهايتها ومصيرها ليست بأيدينا
بل بأيديهم، فهم ينصرون من يرون أنّ من مصلحتهم نصره، ويخذلون من يرون في خذلانه فائدة لهم، وإذا أرادوا أن يمدوا في حرب
قرابة عقد من السنين لتصبح أطول من الحرب العالمية الثانية فلا حرج، كي تجري فيها جنباً إلى جنب مصالحهم ودماء الآخرين، واللعبة
هي بين خبث الذكي وبلادة الغبي، ولكن الملام الأكبر هو نحن ـ المغفلين ـ، وتجربة البوسنة التي تمثل (حيّاً أوروبيّاً) داخل أوروبا لا
تخرج عن هذه اللعبة المقيتة، التي آخر ما ينظر فيها مقياس العدل والحق، وهذا واقع يجب أن نتعامل معه.
. وتقول الفكرة الرابعة: بما أنّم هم الذين (يدركون) و(يستطيعون)، فلماذا لا يطفؤون الحرائق، أو لماذا يشعلونا؟ وجواب هذا
4
هو أنّ العالم الذي نعيش فيه، كما وصفه المؤرخ البريطاني توينبي، يعيشحالة فراق بين العلم والقيم، فالعلم شقّ الطريق إلى السلم، كما
فعلت التكنولوجيا الجديدة من ربط الناس وسرعة الاتصال وتطوير الأجهزة، ولكنّ الذي حصل هو أنّ السياسيين مازالوا لم يقفزوا
القفزة النوعية نفسها التي قفزها العلم، فهم مازالوا يريدون وضع الطاقة الجديدة في القربة القديمة، ولكن وضع (الغاز) في (قربة جلد)
تنتهي بتعفن الجو وكارثة تفجير، كما هيفيحروب السياسيين التيلا تنتهي، وما يحتاجونه هو أوعية فكرية جديدة من النوع الذي أشار
إليه غورباتشوف، فمسلمة (كلاوسفيتز) القديمة في فن الحرب، من أنّ الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل جديدة، قد طواها الزمن
وأكلها العث، ولكنها مازالتحية في أذهان الكثيرين الذين لم يعوا التحول الجديد. ومن هنا فإنّ المفكرين والفلاسفة يسبقون عصرهم
ويتركون آثاراً بعيدة، فلا يظهر أثرهم إلا قليلاً في عصرهم الذي عاشوه، فابن رشد مازال يعيش في ذاكرة التاريخ، في الوقت الذي لا
نذكر الحاكم أو الدولة التي كان يعيش فيها.
إذا استطعنا أن نفهم هذه القضايا البسيطة والمصيرية فيمكن أن نصل إلى حلّ مشاكلنا بسهولة، من توديع العالم القديم، عالم الحرب
والسلاح، ودخولنا إلى دائرة النار تجعلنا تحت سيطرة الذي يفهم اللعبة ويحولنا فيها إلى مسخّرات (بالفتح) تحت رحمته، وسنبقى ندفع
فواتير الدم والدموع وحفلات التهجير الجماعي وهدم المدن فوق رؤوس الناس بأيدينا وأيديهم، كما وصف القرآن اليهود «يخربون
بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار».
يقول المثل: «الله يطعمكحجّة والناسراجعة»، عن الرجل الذي أراد أن يذهبلأداء فريضة الحج، بينما كان الناس قد قفلوا عائدين
إلى بيوتهم، فإنْ أبينا إلا سلوك طريق القوة ـ ونحن نرى الناس تعود منه منجفلة مذعورة تنفض عن كاهلها الغبار الذري، وهي لا
تصدّق أنّا مازالت على قيد الحياة ـ فسوف نكون أحمق من هبنقة وأشعب معاً.
بين الهمجيّة والحضارة، مصير الإنسان ... إلى أين؟
العالم الذي نعيش فيه يعيشحالة فراق بين
العلم والقيم، فالعلم شقّ الطريق إلى السلم،
كما فعلت التكنولوجيا الجديدة من ربط الناس
وسرعة الاتصال وتطوير الأجهزة، ولكنّ الذي
حصل هو أنّ السياسيين مازالوا لم يقفزوا القفزة
النوعية نفسها التي قفزها العلم وما يحتاجونه
هو أوعية فكرية جديدة من النوع الذي أشار
إليه غورباتشوف.




