Next Page  19 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 19 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

19

2016 )9(

العدد

البارود الذي لا يحتاج لأكثر من عود ثقاب كي يتفجر، فكانت

الحرب كما وصفها (غاستون بوتول) بنت الحضارة وقاتلتها

. فالحروب قررت مصير العديد من الدول

17

في الوقت نفسه

والإمبراطوريات فارتفعت لتسقط بعد حين وبالآليّة نفسها.

ومرّت دورات الحرب لتفرز أسلحة جديدة تنفع سواء في

الصدم أو الوقاية أو الحركة، وهكذا طور الآشوريون العربة

الحربية، واستخدم هانيبال الفيلة، وطور الإسكندر نظام

الفالانكس ببراعة، واستخدم الرومان نظام اللجيون بدقة

وتفوق، وفتح الأتراك القسطنطينية بالمدفع الجبار، وحول كل

من جنكيزخان وهتلر جيوشهما إلى فرق محمولة سواء بالخيالة أو

البانزر (الدبابات)، ومع دخول النيران سقطت القلاع والحصون، وبتطوير المدفع الرشاش هزم الإنكليز دولة التعايشيخليفة المهدي

في السودان، كما حصد الرشاش أرواح ما يزيد عن ستين ألفاً من خيرة الجنود البريطانيينفي الحرب العالمية الأولى وفي اثنتي عشرة ساعة

فقط (معركة السوم)، ثم حصل التحول النوعي عندما انتشر الفطر النووي فوق سماء هيروشيما معلناً وصول الإنسان إلى سقف القوة،

ممتلكاً هذه المرّة سلاحاً ليس كالأسلحة، فهذه المرّة وضع يده دفعة واحدة على الوقود النووي، وأصبح مصير الجنس البشري برمّته

مهدداً بالفناء، فمع تطوير الجيل الثاني من السلاح النووي (القنابل الحرارية النووية الالتحامية من عيار الميجاطن) أصبح بالإمكان

مسح عاصمة دولة عظمى تضمّ عشرين مليون نسمة! وتحويل سطح الأرضفي النهاية إلى ما يشبه سطح القمر بدون شجر أو مدر،

وتحويل الكرة الأرضية إلى جمهورية من الأعشاب والصراصير والعقارب ربما!.

تعتبر الحربحسبتعريفالمعهد الفرنسيلعلم الحربأنا كارثة ذات ثمانية عشروجهاً، فهي: «هيمنة وتأكيد مبدأ المانوية وعدم الاعتراف

بالغير، بل وإنكار وجوده، واندلاع العنف وغياب الحق، والمخاطرة بحياة الإنسان، وتدمير الثروات المتنوعة، وتكريس جميع النشاطات

للمجابهات الدموية وأفضلية اللامعقول على المعقول والمطلق على النسبي في إطار عقلي شمولي ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة والفوضىواشتداد

. مع كل صورة (للتنين) ذي

18

الأزمات والدم والعرق والدموع واللقاء الحتمي مع الموت، وانقطاع أحمق يبرهن على فشل العقل والقلب»

الألسنة النارية الثمانية عشرهذه كما تتكلم الأساطير، فإنّ الإنسان يخطط لها ويبرمج، ويسعى لها ويتدرب ويستعد، فالثكنات العسكرية كلها

للتدريب على كيفية قتل الإنسان أخيه الإنسان، والأسلحة المرهفة الثاقبة والمفجرة قد أعدت بعناية فائقة لنسف الإنسان وتقطيعه. 

لعل أخطر مرضين أصيب بهما الجنس البشري هما (الرق) و(الحرب)، فالحرب كانت تفرز الرقيق، والرق كان (الآلة القديمة)،

فعضلات الإنسان كانت هي الآلة المستخدمة في حرث الأرضوحصد المحاصيل وتربية الحيوان والنقل وما شابه، وبدخول الإنسان

عالم الصناعة كان إلغاء الرق محصلة طبيعية، فلو لم يُلغَ الرق قانوناً لألغته الآلة عملياً، فاختراع الإنسان الآلة وفّر الجهد البشري، فكان

تحرير الرق تابعاً لهذا التطور النوعي، وبهذه الآلية نفسها يزحف الإنسان ببطء إلى إلغاء المرض الثاني (الحرب) وكلّ توابعها وتأثيراتها

على الإدارة والعلوم والفنون. وهذا التطور الجديد يحتاج بالتالي إلى فكر جديد، فلم تعد أوعية الفكر وأساليبها العتيقة مناسبة للعصر

النووي، فلا بدّ من استراتيجية فكرية مناسبة للتطور العلمي الجديد.

  ـ راجع كتاب الحروب والحضارات، المعهد الفرنسي لعلم الحرب، ترجمة أحمد عبد الكريم.

17

.28

ـ المصدر السابق ص

18

الحرب قديمة قدم الإنسان والحضارة، وتشكلت

كخطأ (كروموسومي) مع بداية تشكل المجتمع

الإنساني، فمع الحضارة ولدت الدولة ونشأت

المؤسسة العسكرية الذكورية، ومع ولادة

التخصصاتفي المجتمع وتطور التقانة نبتت

العلوم العسكرية والتكنولوجيا الحربية، وبتعانق

هذا الثالوث المشؤوم (المؤسسة، والعلوم،

والتكنولوجيا) ولدت الحرب من رحم العنف

بين الهمجيّة والحضارة، مصير الإنسان ... إلى أين؟