ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
23
2016 )9(
العدد
في الطبيعة. لذلك كان دائماً مصدر نفسه في الشر والخير والحب
والتسامح والتشدد. وهو أيضاً ما دفعه إلى الانغماس في الكثير
من الممارسات الغريبة في وجوده فاكتشف الكحول والسجائر
والمخدرات والانتحار، وآمن بالسحر والخرافات والأساطير
وتبنى ديانات متعددة، فعل ذلك كله استباقاً أو وقاية ودرءاً
لموتلا ُْلِف ميعاده أبداً.
فقد يكون للطبيعة عند الكائن البشري دور في لونه وتركيبته
الفسيولوجية والكثير من خصائصه البرانية الأخرى، ولكن
ذلك لا يمكن أن يكون مصدراً مباشراً لنوعية انفعالاته، كما لا
يمكن أن تكون عنصراً حاسماً في تحديد طرق التفكير والبرهنة والحجاج عنده. ففي كل حالات الوجود الإنساني على الأرض كانت
الثقافة، بكل مداخلها، الأسطورية والدينية وأشكال السلوك، هي المميز الأسمى للشعوب، وهي أساس النمو والتطور والاندحار
والانتكاسات أيضاً. لقد خلقت الطبيعة حيواناً واحداً يعيش أسيراً لسلوك قار لا يتغير أبداً، أمّا الثقافة فأنتجت كائنات جديدة تتميز
بتنوع أشكال حضورها في الوجود. لذلك كان الفن سمة حضارية مثلى انفرد به الإنسان وحده، «أمّا خلية النحل فلم تكن سوى أثر من
آثار الطبيعة» كما يقول كانط.
بعبارة أخرى، نحن نشترك في الكثير من الأفعال والأحاسيسمصدرها في الغالب «منافذ حسية» هي بوابتنا الأصلية نحو عالم فَرّقت
بيننا وبينه أشكال رمزية من كل الطبائع، ما يُصنفه إيكو، من زاوية التطور السلوكي عند الإنسان، ضمن «الكليات الدلالية» الأولية التي
كانت أساس التمدن الإنساني وتحضره، وهي التي خَلّصت ذلك «الكائن المنعزل الذي يجهل كل ما له علاقة بالمتعة الجنسية ولذة الحوار
منحميميته في الطبيعة لكي تقذف به داخل «غربة» ثقافية غيرتمن شكل حضوره في الوجود. لذلك
2
وحب الأطفال وألم فقدان عزيز»
.
3
كان الإنسان «حيواناً غير سوي» في تصور روسو
وهو ما يعني أنّ الرمزية في حياة الإنسان هي أساس تمدنه وتحضره وانفصاله عن الكائنات الأخرى، وهي أساس التداول الوظيفي
لأشياء الطبيعة وكائناتها (التصرف في خيرات الطبيعة: اكتشاف الأدوات والتداوي والعلاج واستعمال حيوانات كثيرة للتنقل ونقل
الأمتعة)، أمّا «العلامات» فهي إرثمشترك بينكل الكائنات البشرية، وهي ما يظل يُذكره بأصوله الأولى، حينكان الصراخ والإيماءات
الهوجاء وسيلته الوحيدة للاستغاثة والتوسل والرغبة في حضور آخر يحميه من محيط يجهل عنه كلشيء.
وتلك الكليات هي أساس «الأخلاق الإنسانية» وهي أساس ما يُطلَق عليه في أيامنا هاته «القانون الإنساني». فما يُوحدنا جميعاً ليس
ثقافة يشترك فيها كل الناس، وليس ديناً تؤمن بطقوسه ساكنة المعمور قاطبة، إنّ ما يجمعنا حقاً هو انتماؤنا جميعاً إلى هذه الأحاسيس
الأوليّة، فنحن«نمتلكجميعاً فكرة مشتركة عن مقولات الفوق والتحت، ونميل إلى تفضيل الأول عن الثاني. وبالطريقة نفسها، نمتلك
فكرة عن اليمين واليسار، عن التوقف والحركة، عن الصحو والنوم (...) ولنا أعضاء، ونعرف على ما يدل الاصطدام بشيء صلب،
أو اختراق مادة رخوة أو سائل، ونعرف ماذا يعني تحطيمشيء ما، وماذا يعني التطبيل والدوس وتسديد ركلات، وماذا يعني الرقص.
وبإمكاني أن أعدد أشياء أخرى وأدرج ضمن ذلك النظر والسمع والأكل والبلع والقيء. وبطبيعة الحال، كل إنسان يملك فكرة عن
122
، ص
2010 ،
ـ أمبيرتو إيكو: دروس في الأخلاق، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي
2
3-l’homme est un animal dépravé.
«النحن» بين المدنيّة والتوحش
لا وجود لإنسان يعيشخارج «حد أدنى» من
الثقافة، ولا وجود لحيوان يرسم مشروعاً لحياته
وفق نموذج ثقافي مسبق، فالزمنية مِلْك للإنسان
وحده. لذلك من الخطأ رد الهمجية إلى انتماء عرقي
«وضيع» هو ما يُصنف عادة ضمن «التوحش»،
وهو سلوك افتراضييحيل على عالم حيواني يجهل
كلشيء عن الأخلاق والقيم والقوانين




