Next Page  24 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 24 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

24

2016 )9(

العدد

. يتعلق الأمر في هذه الحالات مجتمعة بكل ما يُذَكر

4

الإدراك والتذكر والرغبة والخوف والألم وإصدار أصوات معبرة عن أحاسيس»

الناسجميعاً بأنّم سكان شقة واحدة هي الكوكب الأرضي.

فكيفحدث أن أصبح الإنسان، وهو نتاج ثقافات متحولة ومتنوعة، عدوانياً وهمجياً لا يكف عن القتل والتدمير ونشر الكراهية في

كل مكان ؟ لقد فعل ذلك لأنه اعتقد في وجود آخر قريب منه هو ابن دينه وثقافته وحضارته. إنه الحد الذي تنتهي عنده الإنسانية، أو

تنتهي عند حدود قريته، وما بعد ذلك ليسسوى التوحش والهمجية. فهو وحده «الطيب» و«النقي» و«الحسن الخلق»، بل هو الإنسان

. فهذا الآخر القريب يقتسم معه كلشيء، الطقوس والمراسيم والاحتفالات الدينية، بل يتقاسم معه

5

وحده، أمّا الآخرون فشرّ مطلق

الحقيقة ذاتها، وهي وحيدة لا يطالها التعدد والتبدل.

بعبارة أخرى، إنه يحكم على الآخرين ويصنفهم استناداً إلى ما تبيحه ثقافته وتحرّمه، لا إلى ما يمكن أن يكون عليه الآخرون في ثقافة

أخرى لا تشبه بالضرورة ثقافته. فكل من لا يشبهه لا يمكن أن يكون «سوياً»، إنه موجود خارج الإنسانية وخارج امتيازاتها. بعبارة

أخرى، إنّ مصدر المعيار الأخلاقي عنده هو «النحن» المباشرة بكل حمولتها في اللغة والدين والثقافة، وربما الانتماء الجغرافي أيضاً.

إنّا الحد الذي يفصل بين «التحضر» وبين «التخلف» و«الهمجية». ذلك أنّ «مقولة الإنسانية التي تتحدث عن الناس خارج أصولهم

، لا يتجاوز ذلك النصف الثاني من القرن العشرين (حتى وإن كانت

6

وانتماءاتهم العرقية والحضارية لم تظهر إلا في مراحل متأخرة»

إرهاصاتها بدأت مع فلسفة الأنوار).

وهو ما يعني أنّ التعدد في الثقافات وتنوعها ليس بداهة يسلم بها كل الناس. فهي قد تكون عند الكثيرين في كل بقاع الأرضخللاً

في الطبيعة أو نشازاً في حياة خُلقت لكي تكون واحدة في كل مكان. لذلك يُطلق البعضعلى كل ما لا ينتظم ضمن ثقافتهم صفات من

قبيل «العادات السيئة» و«السلوك الهمجي» و«الوحشية»، «فكل ما لا يستقيم ضمن المعايير التي يعتمدونا في حياتهم يصنفونا خارج

، أو هي بقايا حيوانية عند كائنات في حاجة إلى ترويض حضاري. وقد يكون ذاك هو مصدر ما يشعر به

7

الثقافة، أي ضمن الطبيعة»

الناستجاه من لا يعرفونم أو لا يعرفون أيشيء عن أصولهم وخاصيات محيطهم. «فالبداهة الحسية المباشرة قد تدفع الإنسان العادي

. وهي البداهة ذاتها التي تدفعه إلى

8

إلى الإيمان بوجود أعراق مختلفة عندما يرى دفعة واحدة إفريقياً وأوروبياً وآسيوياً وهندياً من أمريكا»

التوجس من الغريب والمختلففي اللغة واللباس وطريقة الأكل.

لذلك كان اعتماد معايير «النحن» للحكم على الآخرين هو مصدر الهمجيّة والتعصب والكثير من الأمراض التي رافقت الإنسان

في وجوده الأرضي. إنّ «النحن» المنفصلة عن الآخرين لن تكون سوى مضللة في أغلب الأوقات، فهي تحدد المقبول والمرفوض

والمحبذ والمكروه استناداً إلى ما تؤمن به في العقيدة أو السلوك الاجتماعي. وباسم هذا الإيمان تمّت في كثير من مراحل التاريخ

مقاضاة الآخرين وإدانة سلوكهم، بل وإعلان الحرب عليهم، باسم الدين والإثنية والانتماء الطائفي أو العرقي، وباسم الشرعية

الدولية أحياناً أخرى. والحال أنّ هذه «النحن» لا يمكن أن تتحدد باعتبار ذاتها، أي باعتبار المخزون الأخلاقي عندها، بل يجب أن

تقيس أخلاقها استناداً إلى أخلاق الآخر، ذلك أنّ العزلة لا يمكن أن تقود إلا إلى الفاشية والتطهير بكل أنواعه. إنّ «أخطر ما يمكن

121

  ـ أمبيرتو إيكو: دروس في الأخلاق، ص

4

Claude Lévi-Strauss, op cit p.384 .5

.Claude Lévi-Strauss, op cit p.383 .6

.383

  ـ نفسه ص

7

.385

  ـ نفسه ص

8

سعيد بنكراد