Next Page  18 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 18 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

18

2016 )9(

العدد

. هذه القصة من قصص التراجيديا التي لا تقترب

15

عشر، بنزوحهم عن موطنهم الأصلي وتفرقهم في تركيا والأردن وسورية ومصر

منها قصص التراجيديا العالمية بشيء، لا قصة البؤساء (أو قصة عاصفة وقلب) لفيكتور هوجو، ولا قصة ماجدولين للمنفلوطي، ولا

قصص ديستوفسكي وتولستوي، لأنا رواية شعب يفنى بكامله فلا يبقى حتى من يقصّ خبر اختفائه من سطح الأرض، إنا ليست

قصة عاطفية ومأساة فردية، بل هي مصير أمّة وناية شعب بالكامل، إنّا قصة يصاب من يقرؤها بالصدمة، ولا يتركها إلا وقد بكى

مرات ومرات ...، إنّا ليست قصة من تأليف الخيال، بل هي مأساة واقعية حدثت بالفعل، عن تاريخ الإنسان الوحش وبطشه بأخيه

الإنسان؛ إلى درجة أنّ البعض فكر أنه من الأفضل للإنسان أن يهرب من المجتمع ويرجع مرّة أخرى إلى الغابة التي خرج منها، فثعابين

الغابة ووحوشها أرحم من بطش الإنسان وظلمه.

ويروي لنا القرآن قصة فتية الكهف الذين هربوا إلى الجبال ولجؤوا إلى الكهف، لأنم توقعوا شرّ ميتة فيما لو عادوا إلى قومهم، «إنم

إن يظهروا عليكم يرجموكم»، كله بسبب الخلاففي الرأي، حتىضنّوا بالكلب أن يعيشفي ذلك المجتمع، فمجتمع من هذا النوع ليس

. ولا غرابة في

16

فيه ضمانات حتى للحيوان. «وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولملئت منهم رعباً»

هذا الكلام، فالمجتمع الإسلامي لا تموت فيه القطط جوعاً والكلاب هرساً بدواليب السيارات، بل يغفر الله لمن سقى كلباً عطشان،

ودخلت النار امرأة أجاعت قطة حتى الموت.

ولكنصبراً فهذه ليست القصة ولا كامل الجرعة، فلا بدّ من تملي الصورة جيداً ورؤية التاريخ الإنسانيفيضوء جديد، والسؤال الكبير

والمحير الذي اجتهد الفلاسفة والمفكرون في تحليله هو: لماذا الحرب؟ كيف يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟ كيف نشأت الحرب وتطورت؟

أين نشأت؟ وما ظروف تكوينها الجنينية؟ وما جذور العنف والحرب عموماً؟ ثم إلى أين وصلت اليوم؟ وما مصيرها في المستقبل؟

إنّ الحربهي التجلي الأعظم لإلغاء الإنسان أخيه الإنسان، فعندما يختلف اثنان هناك طريقان لا ثالثلهما لحل المشكلة القائمة بينهما،

إمّا محاولة التفاهم بحيث يغير الآخر موقفه من تلقاء نفسه وبقناعته الخاصة، وإمّا باستخدام أساليب (الإكراه) للآخر بصور شتى لا

تنتهي، فالعنف يبدأ من الكلمة وينتهي بالرصاصة، وأشكال السلوك العنيفة لا تنتهي؛ من رفع الصوت وحدة النظر والتوتر والانفعال

والتآمر والكراهية والغضب والحقد والخبث والضرب والأذية، وتتوج في النهاية بالإلغاء الكامل والتصفية الجسدية، فالحرب هي

الصورة النهائية والتجلي الختامي لحذف الآخر الذي لا نعترف بوجوده، نحذفه من الوجود بالسكين والمسدس والقذيفة والسلاح

النووي والكيمياوي!! فهذه هي فلسفة الحرب وجذر العدوان.

الحرب قديمة قدم الإنسان والحضارة، وتشكلت كخطأ (كروموسومي) مع بداية تشكل المجتمع الإنساني، فمع الحضارة ولدت

الدولة ونشأت المؤسسة العسكرية الذكورية، ومع ولادة التخصصات في المجتمع وتطور التقانة نبتت العلوم العسكرية والتكنولوجيا

الحربية، وبتعانق هذا الثالوث المشؤوم (المؤسسة، والعلوم، والتكنولوجيا) ولدت الحرب من رحم العنف؛ صغيرة ضعيفة لتكبر وتنمو

بأشدّ من السطان والغيلان، بل إنّ مجتمعات بكاملها تحولت لفترة طويلة أو قصيرة إلىمجتمعاتعسكرية بالكامل، كما حدثمع مجتمع

(إسبرطة) القديم الذي أصبح مضرب مثل السوء، مقابل مجتمع (أثينا) مركز العلم والفلسفة والفنون. ومع تطور آلة الحرب وعلوم

استخدامها، وضخامة المؤسسة العسكرية واستفحالها وتغول الدولة، تفجرت الحروبوالصداماتكتحصيل حاصل وكنتيجة حتمية،

وكلها تحت ستار (الدفاع) عن النفس المشروع، أو أنّ الهجوم هو خير وسيلة للدفاع، وبآلية الاستعداد المزدوج للدفاع يتشكل برميل

ـ تتناثر قرى (الشراكسة) في المناطق المذكورة، وهي بقايا الهجرات المروعة لشعوب شمال قفقاسيا، ولذا فإنّ الصراع الحالي في الشيشان هو استمرار القصة الأليمة

15

السابقة.

.18

  ـ الكهف الآية رقم

16

خالصجلبي