ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
25
2016 )9(
العدد
، أي امتلاكها لثقافة لا
9
أن يصيب أمّة ما هو شعورها بالوحدة»
تشبه كل الثقافات.
بعبارة أخرى، إنّ وعي الذات لحدودها خطوة نحو التحضر
وتقليص لممكنات التوحش والهمجيّة، ولكن هذا الحد ليس
فرضية محايدة وليس قابلاً للقياس الموضوعي، بل هو موجود
ضمن نظام قيمي خاص، لذلك لا نعرف أحياناً متى ينتهي القتل
باسم الإنسانية أو الدين، ومتى يبدأ الفتك بالناس باسم «المصالح
الاقتصادية»، أي متى يكون القتل «مبرراً» درءاً لقتل أشد بشاعة
(كما نحرم المجرم من حريته ونضعه في السجن خوفاً على الناس من عنفه)، ومتى يكون ممارسة همجية تنكرت لكل ما راكمته الإنسانية
من قيم: لقد مات الآلاف من قبيلة التوتسي في مجاهل إفريقيا دون أن يتحرك المجتمع الدولي ليضع حداً لما يعتبره الضمير الإنساني
جريمة، ولكنه بارك قتل مئات الآلاف من العراقيين وأذكى نار كل الطائفياتفي العراق بدعوى البحث عن أسلحة «قد تكون» خطراً
على الإنسانية.
وبالمثل ليسمن حقنا أن ننعت الذين كانوا يقدمون أبناءهم قرباناً للآلهة بالهمجيّة. فالكثير من الممارسات التي تبدو لنا اليوم مغرقة في
العبثية واللامعنى لم تكنسوى ممارسة لنمط ثقافي مشترك بينكائناتلم يكن المتاح العلمي أو المعتقد الديني قادراً على تقديم أجوبة تدفع
إلى عبادة الله وتحافظ على حياة الناس في الوقت ذاته، ولكننا لن نتردد في وصف الذين يمارسون اليوم ختان الفتيات بالهمجيّة، فنحن
نعيشفي مرحلة استطاع الإنسان فيها أن يعي الكثير من حاجاته الأساسية ومنها متعة الحاجة الجنسية، ووعى أيضاً ضرورة المساواة بين
كل الناس نساء ورجالاً. إنّ الذين يمارسون ختان الفتيات في الألفية الثالثة باسم الدين، ليسوا أقل همجيّة من الذين يقطعون الرؤوس
في سوريا والعراق ومجاهل إفريقيا.
لم تكن «البربرية»، التي أصبحت دالة على الهمجية والسلوك الأهوج والممارسات الرعناء في الأخلاق والأحكام عند البعض، سوى
عَيّ في النطق، أو إحالة على أقوام كانوا غرباء على سكان أثينا وروما بعدها. ومع ذلك، فإنّ هذا التوصيف ذاته لم يكن ليخلو من دلالة،
بل من دلالات، لعل أهمها الإيمان بمركزية الأنا بلغتها وثقافتها وحقها وحدها في التصرف في المحيط الطبيعي وفي الزمنية استناداً إلى
هذه المركزية اللسنية بالذات. فأن تتكلم لغة أخرى غير السائد منها، معناه خروجك عن معايير دلالية ونحوية وصوتية يراها الآخر
أساس تعقل الإنسانية، والأساس الذي يقوم عليه كل التحضر. إنّ معاني لغتك أقل شأناً من معاني لغة لا تشبه زقزقة الطيور في الغابة
(كان إرنيست رينان يرى أنّ اللغة الفرنسية لا يمكن أن تكون لغة للعبث).
والحال أنّ سيرورة الوجود في اللغة أعقد من ذلك وأشد غنى من الأحكام العنصرية. فنحن نتفق على شكل وجود الأشياء في العالم
الخارجي دون أن يقودنا ذلك إلى منح الأسماء ذاتها، وذاك أصل التنوع الثقافي ومصدر من مصادره. إنّه دال على أنّ الأمر في اللغة لا
يتعلق بتعيينمحايد، أي بنقل لشيء من عالم مادي إلى عالم مجرد يعادله ويوازيه، كما يعتقد ذلك السذج من الناس، بل هو إعلان عن وجود
جديد يتخذ داخله الشيء الممثلفي اللغة/الذهنصيغة مفهومية لا يمكن أن تُدرك إلاضمن تقطيع ثقافيخاص. ذلك أنّ كل تسمية هي
، لذلكلا
10
استنبات لشيء داخل تربة جديدة قد لا يكون لها أي علاقة بالتربة الأصل. فنحن «نحس داخل عالم ونعين داخل عالم آخر»
.415
ـ نفسه ص
9
10. Régis Debray: Vie et mort de l’image, éd Gallimard, 1992, p.64. Régis Debray: Vie et mort de l’image, éd Gallimard, 1992, p.64.
كيفحدث أن أصبح الإنسان، وهو نتاج ثقافات
متنوعة، عدوانياً وهمجياً لا يكف عن القتل ونشر
الكراهية ؟ لقد فعل ذلك لأنه اعتقد في وجود آخر
قريب منه هو ابن دينه وثقافته وحضارته. إنه الحد
الذي تنتهي عنده الإنسانية، أو تنتهي عند حدود
قريته، وما بعد ذلك ليسسوى التوحش والهمجية
«النحن» بين المدنيّة والتوحش




