ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
20
2016 )9(
العدد
يقول غورباتشوف: «الحرب النووية لا يمكن أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وإيديولوجية أو أي أهداف
أخرى، وتكتسبهذه الخلاصة في الحقيقة طابعاً ثورياً كونا تعني قطعاً نائياً مع التصورات التقليدية حول الحرب والسلام، فالوظيفة
السياسية للحرب كان تبريرها عقلانياً، أمّا الحرب النووية فهي عقيمة وغير عقلانية، ففي النزاع النووي لن يكون هناك رابحون
. وانتبه الرئيس الأمريكي
19
وخاسرون، لأنّ الحضارة العالمية سوف تفنى، فالنزاع النووي ليسحرباً بالمفهوم التقليدي بل هو انتحار»
م، فأشار إلى أنّ الخيار المفتوح أمام الجنس البشري هو بين الموت والحوار، وأنّ عصر
1956
(آيزناور) إلى هذا التحول النوعي منذ عام
.
20
التسلح قد ولى
وإذا كان العالم قد وصل إلى هذه المرحلة في ضوء هذه البانوراما، فلماذا تحدث الحروب التقليدية هنا وهناك في البوسنة وراوندا، في
أذربيجان والشيشان؟ سألت زوجة الدكتور كامل بشغف لتسمع الإجابة، فكل الشرح السابق لم يعطها برد اليقين.
إنّ هذا يتطلب إلقاء الضوء في زاوية جديدة مختلفة عن المسار الذيشرحناه وقدمناه. وهي تشمل الباقة الزهرية الفكرية التالية من
حديقة الفكر:
. تقول الفكرة الأولى: إنّ العالم الذي نعيش فيه قد تحول إلى شريحتين متميزتين: الشريحة الأولى مضت في الشوط حتى منتهاه،
1
وطورت كلّ الأسلحة التي تخطر على البال ولا تخطر، فوصلت إلى هذه الحقيقة التي قررها الرئيس الأمريكي (آيزناور)، أي أنه لا
سبيل إلى حل المشاكل عن طريق القوة المسلحة، وفض النزاعات عن طريق الحروب، ولذا توقفت عن استعمال القوة فيما بين بعضها
بعضاً، وهكذا تقاربت فرنسا وألمانيا، مع كل العداوات التاريخية القديمة، وتشكلت الوحدة الأوروبية التي يزداد أعضاؤها كل يوم،
بحيث تتحول البحيرة الأوروبية مع كل يوم إلى بحيرة سلام، وأرض تفيضعسلاً ولبناً. والشريحة الثانية التي لم تدرك طبيعة التحول
النوعي الذي دخله العالم بتطليق القوة ثلاثاً لا رجعة فيها، فهو وإن كان يعيش بيولوجياً في ناية القرن العشرين ولكنه مازال يعيش
عقلياً في القرن التاسع عشر، فهيشريحة منتسبة إلى العهد العتيق؛ عصر الغابة والهراوة والسيف والترس وامتداداتها من سبطانة المدفع
أو التلمظ لـ(صنم) السامري الجديد، سلاح شمشون الجبار، القنبلة النووية التي يفككها من بدأ بصناعتها، ويندم على مليارات
الدولارات التي أنفقها في إنتاجها، ويعلم علم اليقين أنا سلاح ليس للاستخدام، فهي صنم السامري الذي له خوار «فأخرج لهم
عجلاً جسداً له خوار»، ولكنه لا يضرّ ولا ينفع، ولا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولو كان للاستعمال لاستخدمته أمريكا في أشد
الظروفحلكة، في حرب فيتنام وكوريا وسواهما.
. وتقول الفكرة الثانية: إنّ عيوننا ترى العجيب والمتناقض الآن، فهناك تياران في العالم: الأول يرمي بالسلاح ويتخلص منه، بعد
2
أن شعر أنه صنم لا يضر ولا ينفع، وبدأ يكتشف أنّ أعظم سلاح هو الإنسان الجديد المسلح بالعلم والسلم، فهما الجناحان اللذان
سوف يطير بهما إلى عالم المستقبل، وتيار يكدس السلاح ويشتريه ليلاً وناراً، بل والمضحك أكثر، أنّ الفريق الأول يفكك السلاح
الاستراتيجي فلا يبيعه، ويبيع السلاح السخيف، فيقبض عليه أموالاً وفيرة، وهكذا أنفق العالم العربي في تكديس السلاح السخيف
ودفع مليون مليون (تريليون) دولار في مدى العشرين سنة المنصرمة ومازال، كلّ ذلك بسبب هذه العمى التاريخي عن المتحولات
الخطيرة في صيرورة التاريخ ووقع أحداثه.
.199
ـ بيروستريكا، غورباتشوف، دار الفارابي، ص
19
(يجب على الطرفين المهتمين بالحرب
14
كتاب مصير كوكب الأرض في الحرب النووية، جوناثان شيل، ترجمة موسى الزعبي، مكتب الخدمات الطباعية، دمشق ص
20
أن يجلسا في يوم ما على طاولة المفاوضات وهما مقتنعان بأنّ عصر التسلح قد انتهى، وبأنه يتوجب على البشر الخضوع لهذه الحقيقة أو اختيار الموت).
خالصجلبي




