Next Page  26 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 26 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

26

2016 )9(

العدد

يمنعنا التسليم بوجود الأشياء في العالم الخارجي من الاختلاف في تسمياتها. فلا فضل لهذه اللغة على تلك إلا في قدرتها على تغطية كل

مناحي الحياة، وتلك قضية أخرى.

وكما كانت الأحاسيس الأولية كونية ومشتركة بين الناسوهي أساستحضرنا، فإنّ الحقائق العلمية هي أيضاً كونية، فلاشيء فيمحيطنا

يجعل حديدَنا يستعصيعلى التمدد، ولن تكون جاذبيتنا أقوى من جاذبية الآخرين، وستظل الأمراضالتي تفتك بالناسهي ذاتها في كل

بقاع الأرض. والأمر ليس كذلك مع الثقافات، إنّ حقائقها نسبية ومتغيرة، فقد لا نستسيغ أكل الضفادع والاستمتاع بلحم الأفاعي،

ولكن لا يحق لنا إدانة من يفعل ذلك، فنحن أيضاً نأكل ما يراه الآخرون سلوكاً أكْلياً همجياً ومتخلفاً. إنّ طريقة الأكل عندنا وعندهم

سلوك ثقافي لا علاقة له في الغالب بشيء آخر غير متعة الأكل ذاتها. لذلكلا تثريب علينا في أن نقبل بما يفعله الآخرون ونتفهمه دون أن

يلزمنا ذلك ممارسةَ ما يمارسون. فنحن وهم لم نخرق قانوناً ولم نعتد على محرماتنا ومحرماتهم.

بعبارة أخرى، إنّنا ننتمي إلى ثقافتنا استناداً إلى خصوصيات هي ملك لنا، ولكنها غير قابلة للتعميم على كل الناس. إنّنا نمارسطقوساً

هي جزء من ديننا وتراثنا، ولكننا لا يمكن أن نحقق إنسانيتنا استناداً إلى نصوص مطلقة الحكم والتقدير والإحالات الدلالية، إننا

نستطيع فعل ذلك بالتسليم بوجود معيش يومي تتحكم فيه الكثير من الشروط، لعل أهمها الرغبة في البقاء والخوف من الجوع والتشرد

وما يأتي به الزمن في غفلة منا. وهي المشاعر والأحاسيس ذاتها التي يتقاسمها معنا كل الناس. ولقد أدرك الدين نفسه، ديننا، هشاشة

الكائن البشري ونسبية أحكامه فأحاط السلوك بالكثير من ممكنات «الخرق»، فتحدث عن الضرورة والمكروه وما استُكره الناس عليه.

وذاك هو أصل الثقافات وتنوعها.