ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
29
2016 )9(
العدد
فيحين أنّ التوحش، كماصوّرته الأبحاث الاستشراقية الحديثة،
هو منتفٍ في الداخل وملحَق بالخارج، في مقابل التحضر النابع
من الذات بغرض تصدير نورانية إلى الغير. ولم يتوقف الأمر
عند ادعاءات سياسية كما لخّصها الوزير الأول الفرنسي جول
، مع
1885
) في خطابه في برلمان بلاده سنة
Jules Ferry
فيري (
توطد أركان الاستعمار الفرنسي في إفريقيا بقوله: «يملي الواجب
على الأجناس الراقية العمل للنهوض بالأهلي المنحط، وفرنسا في
مقدمة الدول المطالبة بذلك الحق لترقية الشعوب التي بقيت في
طور البربرية...».
فإبّان ذلك التحفز الاستعماري حالف المستشرقُ السياسيّ. كان
جهاز الآلة الثقافية يشتغل بوتيرة متسارعة جنب الآلة السياسية
لخلق «البرابرة الجدد»، مع إضفاء مسحة إيزوتيكية لإخفاء الطابع
تأسست «البعثة العلمية إلى المغرب» التي كانت تجمّعاً نشيطاً لعلماء الإثنوغرافيا وعلم الاجتماع والتاريخ
1904
. سنة
3
العنيف للعملية
واللغويين، ربطتها صلات متينة بالإدارة الاستعمارية، كما كانت تمثّل جساً رابطاً للدارسينفي البلد الأصل؛ وبالمثل تشكّلَ في بلاد الشام
) المعهد الفرنسيفي دمشق للغرض نفسه.
1946-1919(
إبان الانتداب الفرنسي
ذلك أنّ القوى المهيمنة غالباً ما برّرت فعلها بادعاء احتكار المشروعية الحضارية، وسلبتها من الآخر إلى درجة إنزاله مرتبة
منحطّة. فكان من باب الواجب الأخلاقي عليها الأخذ بيَد المتخلّف وإلحاقه بركب التح ّ، بيْدَ أنا لم تتوانَ عن اقتراف المساوئ
بدعوى بثّ رسالتها، ولو بلغ ذلكحيناً حدّ الاستعباد والإبادة. إذ تكشف الثنائية المانوية للتحضروالتوحشعن اختزان إسقاطات
ْ التحضر ينتهي إلى
إيديولوجية تقود إلى نوع من التبرير، توهم الفاعل أنه بمنأى عن أي سقوط حضاري يطاله. فهو في زعمه ن
اقترافجرم بحقّ الآخر، تدمير لهويته، وتهديد لكيانه، وتحوير للسانه، مصادَرة لماضيه ورهن لمستقبله، بدعوى استبدال ما هو هابط
بما هو أرقى.
ولطالما شكّل الآخر في منظور المستعلي عدماً، وأحيانا فراغاً ينبغي ملؤه وتشكيله على هواه. كان عالم الإناسة البلغاري تزفيتان
) قد صاغ في مؤلف له بعنوان «غزو أمريكا»، تصوراً نبيهاً عن عقلية الأوروبيين الغزاة خلال القرنين
Tzvetan Todorov
تودوروف (
الخامس عشر والسادس عشر. ما يزال هذا التصور مجدياً في فهم العقلية الأوروبية في تعاملها مع الآخر في التاريخ الراهن. فقد استعاد
تودوروففي بنائه الأنثروبولوجي مختلف المواقف التي اتخذها الغزاة أثناء مواجهتهم الهنود الحمر، والتي تراوحت بين القول بالتذويب
والتمييز:
* من جانب يتيس لذلك الآخر أن يصير مثلنا، وملامحه المختلفة لن تحول دون أن يكون شبهاً لنا.
* ومن جانب آخر لن يتيسّ لذلك المختلف أن يكون صنواً لنا، مع استبعاد إمكانية تحوله إلى كائن مساير لنمط عيشنا ولقواعدنا
الاجتماعية.
3. Tzvetan Todorov, La paura dei barbari. Oltre lo scontro delle civiltà, Garzanti 2016, pp. 26- 41.
مراجعاتفي مدوّنة الاستعلاء الغربي
رغم أنّ لعبة التصنيف قديمة عرفتها
حضاراتسابقة تحت مسمياتشتّى،
على غرار ثنائية البرابرة والرومان، وشعب
الله المختار والغويم ، فإنّ الحضارة الغربية
الحديثة التي تفخر بحسّها النقدي لم تسلم
من هذا الوقوع في فخّ النعوت المشينة للآخر
طوراً بـ«الأبوريجان» وتارة بـ«الإنديجان»
وأخرى بـ«الأوتوكتون» المؤدية جميعها إلى
إقرار الاستعلاء




