Next Page  30 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 30 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

30

2016 )9(

العدد

عز الدين عناية

وقلّة من هؤلاء الغزاة من تبنوا موقفاً وسطاً، ينبني على مراعاة ذلك الآخر واحترام خصوصياته. وكانت القناعة آنذاك أنّ الآخر

ينبغي أن يفتّش عن التلاؤم معنا، إذ الحقّ والخير يدوران حيثما درنا. والغزاة كما يذكر تودوروف: «بحثوا في وصف الهنود الحمر عن

توصيفات استوحوا إياها من تاريخهم...، سمّى الإسبان أول المعابد التي عثروا عليها مساجدَ، والمدينة الأولى التي صادفوها القاهرة

.

4

الكبرى»

لقد بلغت زعزعة الهويّات درجة عالية في الدول التي تعرضت للاستعمار الغربي، حتى ليغدو البحث عن التماهي مع الغالب ديدناً

للذوبان فيه، بتقليد لسانه وعوائده وطباعه، وهو أمر تنبّه له «صاحب المقدمة» مبكراً في قوله الشهير «إنّ المغلوبمولع بالاقتداء بالغالب

فيشعاره وزيه ونحلته...». ولكنفي غمرة انبهار المقلّد يفوته أمر، ما فتئ داخل هشيم حضارته التي تنكّر لها، فما إن يحلّ بموطن الغالب

ويستوطن فيه، حتى يدرك يقيناً أنّ الغالب يتعامل معه ككائن جامد في التاريخ، وضمن صورة أزلية مهما تماهى معه وقلّده.

ولم يتسّب الفتور إلى ذلك الاستعلاء راهناً، برغم الحديثعن المصير الواحد والمسار الواحد للبشرية، بل زاد رسوخاً بموجب تطور

أساليب الهيمنة، بعد أن باتت مركّبة تمتد من الاقتصاد إلى الاعتقاد، ومن الإعلام إلى زرع الأوهام، ومن الأخلاق إلى الأذواق. لذلك

تسي تسّبات الغلبة الغربية اليوم فيشرائح واسعة من مثقفيه ومن وكلائه علىحد سواء. إذ صعبٌ أن يكونلحضارات الهامشصوت

مسموع، والأمر كما يعانيه العرب، يعانيه الأفارقة والهنود والصينيون والروس وشعوبجنوب القارة الأمريكية.

فالحضارة يحاول الغرب اختزالها في ذاته، في قيَمه وفي مساره التاريخي، وما مساهمات الآخر سوى إرهاصات منقوصة أو محاولات

، والديمقراطية،

5

صبيانية. فالدولة هي منتوج غربي، مع أنّ أوروك (الوركاء) أولى المدن على وجه البسيطة، كما يثبت المؤرخ ماريو ليفِراني

بمعنى الحكم الرشيد، هي منتوج غربي، وكافة أشكال الاقتراب من ذلك الحكم هي أحلام، لم تجد التجسد سوى في النموذج الغربي

بتأكيد الطابع الحصري لها. ليست الفقرة المثيرة للجدل لدى السوفسطائي أنتيفون بشأن العدالة سوى تنديد بالعدالة العرجاء المميزة

للديمقراطية: «نحن أشدّ بربرية من البرابرة»، لأننا حفرنا خندقاً بين الإغريق وسواهم، في حين أننا متساوون جميعاً في الأصل: «كلّنا

. حتى القيم الخلقية والدينية ينبغي أن تكون مختزَلة في الفهم العلماني وما بعد العلماني

6

نستنشق الهواء بأنوفنا ونتناول الطعام بأيدينا»

للغرب. ما عدا ذلك فكلّ المحاولاتلا تتّسق مع روح التاريخ، لأنّ تاريخ الكون ومنتهاه يُكتب من وجهة نظر غربية ومن داخل المسار

الغربي.

) الصينيينضمن أعراق

Ranke

يتحدّث الإيطالي باولو سانتانجيلو، أحد المختصّين في التاريخ الحضاري قائلاً: لقد وضع «رانكه» (

) إلى أنّ تاريخ الصين كان قد «تكلّس» و«تحجّر». ونطالع آراء مماثلة عند «توينبي»

Spengler

«الجمود الأبدي»، بينما ذهب «شبنغلر» (

) الذي جعل من صفة الثبات التي تتّسم بها

Weber

)، الذي رأى في القرن الرابع عشر ناية للحيوية الصينية، و«فيبر» (

Toynbee

(

.

7

الحضارة الصينية نقيضاً للديناميكية والعقلانية الأوروبية الحديثة

فمنذ الاتصالات المباشرة الأولى لليسوعيينوالتنويريين الأوروبيين بالصين، جرتمحاولات لتأطير هذه الحضارة «الأخرى» المختلفة

والقديمة كذلك، ضمن النظام المعرفي التقليدي الغربي. بهذا المنظور، ووفقاً لنزعة مركزية أوروبية، جرى نفي التاريخ عن هذه الحضارة

4. Tzvetan Todorov, La conquista dell›America, Einaudi, Torino 1992, p. 132.

.2012

  ـ ماريو ليفِراني: أوروك. أولى المدن على وجه البسيطة، ترجمة: عزالدين عناية، كلمة، أبوظبي

5

.117 :

، ص

2012

  ـ لوتشانو كنْفُرا: مدخل إلى التاريخ الإغريقي، ترجمة: عزالدين عناية، كلمة، أبوظبي

6

.18 :

، ص

2015

  ـ باولو سانتانجيلو: إمبراطورية التفويض السماوي: الصين بين القرنين الرابع عشر والتاسع عشر، ترجمة: ناصر إسماعيل، كلمة، أبوظبي

7