Next Page  34 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 34 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

34

2016 )9(

العدد

وبفعل ما خلّفته مقولات التطورية لاحقاً من توظيف في المجالين الاجتماعي والسياسي وتبين خطورة هذا المنحى، بدأ البحث عن

صياغات بريئة ومحايدة، لا تسيء إلى أي كان (عبارتا «الهمج» و«البرابرة» اللتان تعودان إلى تطورية القرن التاسع عشر الميلاديّ يمكن أن

folk

تكونا مدعاة للذمّ، ولكن لحسن الطالع أنّ المنعوتِين ما كانوا ملمّين بالقراءة...). وهكذا استعاضعنهما روبرت رادفيلد، بمقولة (

civilized

) لِنعتِ مجتمعات ما قبل التح ّ، بقصد تفادي عبارات تتضمّن ذمّاً، ثم قابلها بمقولة «المجتمعات المتحضرة» (

societies

.

19

)

societies

الجدل بشأن مفهوم التحضر ونقيضه ما زال مطروحاً حتى الوقت الراهن، وإن تقلّصت حمولته العنصرية، فإنّه ما برح يحافظ على

طابعه الاحتكاري. تخصّ مؤرخة الاقتصاد المعاصرة فيرا زامانيي أوروبا بخلاصة هذا التحضردون سواها، وكأنا قارة معزولة تاريخياً

وجغرافياً عن عالمنا. في محاولتها تفسير كيف غ ّت أوروبا العالم، تدعم أطروحتها حول تلك الريادة بإبراز محورية التطور الحاصل على

مستوى المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، ولا سيما على مستوى القيم التي تمثل الدافع المتين المتواري لتلك التحولات. وبحسب

المؤرخة يكمن المحدد الرئيسفي تطور مختلف المجتمعاتفي الرؤى الفلسفية الدينية للعالم، وفي التنظيم الاجتماعي المتولّد عنه، المدعوم

.

20

بسائر المؤسسات السياسية والتنظيمات الاجتماعية، وفي هذا تحوز المسيحية الدور المحوري

مهمّشون في ضيافة الرفاه

يشكّل المهاجرون المسلمون في الغرب عنصر اختبار مهمّ لما يُطلق عليه «حوار الحضارات»، غالباً ما تغفل السوسيولوجيا العربية عن

التطرّق لتفاصيله. حتى نتبين تعاطي الحضارات المهيمنة مع «الدخيل» الوافد، بقصد اختبار واقع التعايش الفعلي بعيداً عن الأطروحات

النظرية التي غالباً ما تكون مضلّلة. فالمهاجر أو وليد المهجر من أصول أجنبية، عادة ما يكون عرضة إلى عنف رمزي، بوصفه ممثّلاً

لحضارة أخرى، يحوّله أحياناً إلى رهينة. فتتحول جماعات كبرى، وفق التعاطي غير السوي، إلى رهائن حضارية في لحظات التأزم المعو َ.

يُعزَل المغاير في المسكن ويُدحر من الشغل ولا يُدعى إليه إلا عند الضرورة أو الحاجة الملحّة، ولا ينحصرهذا في اليد العاملة والشرائح

الشغيلة، بل يطال الشرائح الدارسة والمتدرّبة. فما يُعرف بـ«تشايْنا تاون» داخل الدول الغربية ومثيلاتها منتجمعات المغاربيينوالبنغاليين

والأفارقة وآخرين، هي في الواقع جزر معزولة لتجمعات مهمّشة دحرتهم الحضارة الطاردة التي يتواجدون في أحضانا، ممّا ألجأهم إلى

خلق حيز معيشيوبناء روابط اقتصادية واجتماعية وتعليمية بينهم. وما رصده عالم الاجتماع الإيطالي إنزو باتشي بشأن تجمعات المسلمين

في أوروبا ينطبق على غيرهم من التجمعات الأخرىفي قوله: «من المستحيل اعتبار أتباع الديانة الإسلامية المتواجدين في أوروبا أجانبَ.

لأنّ أغلبهم مواطنون، أو سيصبحون كذلك في المستقبل القريب، وُلِدوا ونشؤوا في مختلف المجتمعات الوطنية الأوروبية. وكلّ تمييز،

بمعناه الديني، يتعرّضون له يعني أنّ خلفه رغبة مقصودة في تمييز غيريتهم الثقافية. أن يكونوا أجانبَ داخل الوطن هو تناقضٌ، ومع

مرور الوقت لن يكون بمقدور أية حكومة، ولا أية قوة سياسية، حتى تلك التي تمقت الأجانب أو تناهض المسلمين تجاوزَه. لأنه يضع

.

21

أحد المبادئ الأخلاقية والتشريعية الأساسية لحضارتنا محلّ نقاش، ونعني به مبدأ الحرية الدينية»

لكن ينبغي أن نقرّ بأنّ الغرب، أثناء وصمه الآخر بالهمجية أو تهميشه بعد أن حلّ بدياره، لم يخلُ ممّن يسفهون زعمه أو ينتقدون

مسلكه، من داخله ومن أبناء جلدته. فالغرب ليسكياناً مفارقاً موحداً، بل يستبطن في داخله قوى ومصالح متنافرة وعقلاً مركّباً. وهو

لا يفقد إنسانيته ولا يلغيها حتى في لحظات السقوط، ولعل تلك ميزة الغرب الحديث منذ أن دبّ الحس المدني فيه وبات للمجتمع

الأهلي حضوره الفاعل داخله. صحيح لم يخلُ الغرب إلى اليوم من النزعات الشوفينية والرؤى المتطرفة، ولكنّ المسلك الديمقراطي

19. R. Redfield, The Primitive World and Its Transformations, 1953 Ithaca NY.

20. Vera Zamagni, Perché l’Europa ha cambiato il mondo, Il Mulino 2015, Bologna-Italia.

.175-174 :

، ص

2010

  ـ إنْزو باتشي: الإسلام في أوروبا. أنماط الاندماج، ترجمة: عزالدين عناية، كلمة، أبوظبي

21

عز الدين عناية