ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
36
2016 )9(
العدد
*
فيصل درّاج
كلّ تقدّم في الحضارة الإنسانية ينطوي على قسط من البربرية خاص به، له شكل القانون أو القاعدة، منذ أن حاول كسى فارس أن
ينشئ إمبراطورية في زمن سحيق، إلى أن حاول الأمريكي بوش بناء «نظام عالمي جديد». بدا المسار الإنساني في مشاريعه «الحضارية»
المتواترة بصيراً وأعمى معاً: بصيراً في الغايات التي يقصدها، وأعمى في الأدوات التي تحقق الأهداف. انطوى الأمر في الحالتين على
مفارقة مؤسية، فما يظهر عقلانياً في مجال يتكشّف عماء لا عقل فيه في مجال آخر.
. الحضارة في وجه أول:
1
من العبث مقاربة ثنائية الحضارة والبربرية بمقولة «الإنسان» التي هي تجريد لا معنى له، ذلك أنّ كلّ إنسان من السياق التاريخي الذي
يتحرك فيه. فقد احتفى عصرالأنوار الأوروبي بالإنسان احتفاء غير مسبوق وأعطاه صفاتلا ينقصها الاحتفال: الإنسان الشامل، الإنسان
الكلي، الإنسان النوعي...، بيد أنّ ذلك الإنسان، الذي حلم بالسيطرة على الإنسان والزمن والطبيعة، بقي «أوروبيّاً» له جغرافيته ودينه
ورموزه، أو بقي «الإنسان الأبيض» الذي أنطق التاريخ كما يريد، وعهد إلى ذاته «بأبعاد» جسام، عنوانا الأكبر: تحضير الإنسان البدائي
الذي يتأسس على ثنائية السيطرة والإخضاع، وعلى «بداهة المرتبة»، إذ البشرسواسية في مكان، وغير سواسية على الإطلاق في مكان آخر.
لم يكن «عبء الإنسان الأبيض» إلا إعلاناً عن ثنائية لا تنتهي: الأبيضوالأسود. الذي يعرف والذي لا يعرف، الذي يأخذ والذي
عليه أن يعطي، وصاحب القرار ومن لا قرار له. ولأنّ للقوي الحق في الكذب كما يشاء، فقد حجب الإنسان الأبيض ممارسته كلها
وراء شعارات فاضلة لا علاقة لها بالفضيلة، فدمّر العراق بحجة توطين الديمقراطية، واحتل فلسطين بحجة «الشعب المختار» والمشيئة
الإلهية، وغزا أفغانستان بذريعة «استئصال الإرهاب». الأمريكي ديك تشيني، أحد الأصوات التي هندست غزو العراق في مطلع هذا
القرن، كان صادقاً حين قال: «لا يهمنا ما يتحرك فوق أرض الخليج، إنما يهمنا ما هو تحتها». المهم هو النفط الذي تحتاج إليه المصانع
وتسيير الآلات وأجهزة التكييف والتبريد والسيارات...، وغير ذلك من «وسائل الحضارة التي تعوّد عليها إنسان «الدول ما بعد
الصناعية». أمّا الإنسان الآخر المفصول عن «الإنسان الأبيض» فلاحساب له، ويمكن أن يقتل بسبل مختلفة: بالقنابل والغازات السامة،
وبالجوع والأوبئة، وبالتفجيرات العمياء، ذلك أنه «شيء» يُستعمل، وليس له قرار ولا قيمة.
شرح الإنجليزي دانييل ديفو ثنائية الأبيض والأسود، أو الحضارة والبربرية،
1719
في روايته «روبنسون كروزو» التي كتبت عام
بوضوح لا اقتصاد فيه، إذ الأبيضهو السيد الذي يعتصم ببندقيته وباروده، وببوصلة تقصر المسافات، وبعقل متكامل الحسبان، يعيّنه
حاكماً للجزيرة، ويعّ الجزيرة ملكية خاصة به، مساوياً بين العمل المبدع والملكية الخاصة. أمّا الآخر، الأسود، فهو «إنسان الغابات»
الذي حقوقه من خضوعه، الذي يعيّنه خادماً سعيداً بعبوديته، لأنّ «رجل الله الإنجليزي» يحرّره من «بربريته» ويعلّمه اللغة الإنجليزية.
لا يعترف «الحضاري الأبيض» بالأسود البربري، إلا إذا أنجز الأخير اعترافين متساوقين: الاعتراف بتفوق سيّده، الأمر الذي يدفعه إلى
«تقبيل قدميه»، والاعتراف بدونيّتة التي تضع بينه وبين البوصلة والبندقية مسافة شاسعة.
إنسانيّة؟
حضارة
هل هناك من
مفكر وأكاديمي من فلسطين
*




