325
2016 )9(
العدد
حكاية متخيلة نبحث عن صورتها في مكان ما، وإنما هي صورة
يحملها كلّ مثقف أو مهتم في ثناياه. لذا، نتساءل عن المرحلة
الأولى والمرحلة الثانية، فالمرحلة الأولى ساد فيها الكتابكمصدر
أولي وأساسي للمعرفة والنقاش العمومي، بينما المرحلة الثانية
لم يعد فيها للكتاب ذلك البريق الذي كان، بل أضحى صورته
ولم يعد مصدراً للمعرفة كما كان من قبل، بل أضحى صورة
تختلف من موقع إلى آخر، ماذا يعني ذلك؟ أو بالأحرى ماذا
تعني هيمنة الصورة في فضاءاتنا المتعددة؟ صحيح أنّ الصورة
التلفزيونية أضحت الآن جماهيرية مثلما أنا ديمقراطية. أي أنّ
الجميع مرتبط بها، ولأنا كذلك فإنا تقوم بقلب الواقع لدى
المتلقي، سنأخذ مثالين على ذلك يعودان إلى بدايات الثمانينات
من القرن الماضي؛ الأول منهما هو الانتخابات الرئاسية الفرنسية
بين جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران التي فاز بها الأخير، لكن
ما سبب هذا الفوز؟ هل هو راجع إلى البرنامج الانتخابي أم هو
راجع إلى الحراك الاجتماعي الفرنسي؟ أم هو راجع إلى طريقة
كلّ واحد منهما في إقناع الجمهور الفرنسي؟ قد نضيف مبررات
أخرى، مثلما قد تكون هذه المبررات وغيرها عاملاً من عوامل
فوز المرشح الاشتراكي، لكن ثمة مقاربة تفيد أنّ سبب الفوز
يعود إلى الصورة، ذلك أنّ جيسكار ديستان دخل إلى المعركة
الانتخابية بصورة واحدة، صورة فوتوغرافية تفيد السلطة، بينما
شارك فرانسوا ميتران في هذه المعركة بثلاث صور يظهر فيها
واقفاً يتوسط نجوم فرنسا، من العلم إلى الرياضة ... إلخ، وفي
الصورة الثانية كان المرشح واقفاً رفقة نخبة النخبة الفرنسية، أي
مع زبدة المجتمع الفرنسي الذي له تأثير إعلامي على الجمهور،
بينما الصورة الثالثة يظهر فيها وهو يسير فاتحاً يديه ووراءه العلم
الفرنسي، كأنّ الصورة الأخيرة تفيد الأمل. لا تهمني هذه الحكاية
في حكايتها بقدر ما تهمني رمزية الصورة التي شكلت وتشكل
إلى يومنا هذا إحدى الأساسيات التي تفيد التأثير على المنتخبين،
بينما تفيد الصورة الثانية، صورة ياسرعرفات الذي دأب الإعلام
الغربي على تقديمه في صورة إرهابي بالزي العسكري والكوفية
والنظارات السوداء واللحية، وهذه العلاماتتحيل المتلقي الغربي
إلى صورة الإرهابي التي رسختها وسائل الإعلام بكلّ أشكالها،
ومثلها حين يرى أي واحد صورة الخليجي بعمامته وعقاله، فإنّ
هذه الصورة تحيل إلى الغنى الفاحش والبداوة والتخلف...،
إلا أنّ الفلسطينيين فطنوا لهذه الصورة المسيئة فحاولوا تغييرها
بصورة أخرى، صورة تقدم ياسر عرفات يلعب مع الأطفال،
دائم الابتسامة ... وهكذا، وهذه الصورة الأخيرة تمّ ترويجها في
م.
1982
فرنسا منذ خروج الفلسطينيين من بيروتسنة
إذا كانت الصورتان تظهران لنا تأثيرهما القوي على المتلقي فإنما
تعطيان لنا استثمارهما السياسي والأيدولوجي، مثلما تحيلان إلى
قلب الاستعارات التي تحملها. لنترك هذه الصورة جانباً ولنبحث
في الكيفية التي تدفع الصورة إلى قلب المتلقي، ليس القلب ـ هنا
- زاوية نظره، بل في الكيفية التي تؤطر وعيه وحساسيته كذلك.
وهذا ما تفيده حكاية أحد الأباطرة الصينيين الذي طلب من أحد
الرسامين محو الشلال من جدارية كبيرة موجودة في قصره، لأنّ
الصورة تزعجه، بل تزعجه المياه المتدفقة من الشلال، هذه الحكاية
التي أوردها ريجيس دوبري تبين لنا أنّ الصورة تتكلم. أليست
صورة الطفل الفلسطيني «محمد جمال الدرّة» قد تكلمت وأيقظت
العالم لإدانة إسرائيل؟ وإذا كانت الصورة تتكلم كما هو منصوص
عليه في الحكايا القديمة في الأساطير والتماثيل، فإنّ رفضها من
لدن الفلاسفة هو ما يعطي لكليهما معنى. صحيح أنّ ثمة فرق بين
الصورة والأصل، فإحراق الصورة هو تأليه الأصلعبر التماهيمع
العلو، وبالمقابل فالصورة نسخ وتخييل يدفع الرائي للتلف، فهي
عرض ولا يمكن أن يكون العرض موضوعاً للتفكير والتأمل.
إنا الصورة نفسها تقريباً شكلت في القرون الوسطىصراعاً قوياً
داخل الكنائس الأرثوذوكسية، فالصورة تعري الأصل وتفضح
حميميته الخاصة، لذا تمّ تغطية وحجب الأجزاء الإيروتيكية في
الجسد. إنّ لعبة هذا الحجب تحيل إلى القوة المغناطيسية للصورة
على المتلقي، وبالتالي فالمتلقي يبحث عن المنفلت من الصورة
كي يطمئن على قداسته وقداسة الكنيسة. أمّا عند العرب فقد تمّ
تحريم الصورة بشكل أو بآخر، ذلك أنّ الصورة تشاكس القدرة
الإلهية حسب التقليد الفقهي المحافظ. لهذا قد لا نجد في القصور
والمساجد والمعالم الأثرية القديمة صوراً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل
نجد ذلك متضمناً في المنمنمات التي يشكل فيها الحرف عمودها
وإطارها التشكيلي العام، كأنّ الاشتغال بهذا - من لدن الأقدمين
العرب- هو انفلات من النسق التقليدي المهيمن. وإذا كان الأمر
بهذا الشكل فإنّ حادثة تدمير تماثيل بوذا في أفغانستان دليل على
ذلك. لكن كيف تنتقل الصورة من زمن إلى آخر، ومن جيل إلى
آخر، ومن نسق ثقافي إلى نسق آخر؟ هل المسألة تفيد القطع أو
أنا تفيد الاستمرار والتراكم؟ صحيح أننا اليوم نشتغل بأجهزة
بالغة التقنية من التلفاز إلى الهاتف النقال إلى الحواسيب وغيرها،
علوم وثقافة
بلاغة الصورة




