327
2016 )9(
العدد
المضاعفات التي تتركها الصورة التي تسكننا وتغزو فضاءاتنا
وبيوتنا، فالتلفزيون آلة نرتبط بها بشكل يومي لاعتبارها أداة
للفرجة وأداة لا فكاك منها في حياتنا، كأنّ التلفزيون بهذا المعنى
هو الحياة التي نسكنها، أو بالأحرى هي التي تسكننا. إذا نظرنا إلى
ما تقدمه الأخبار التلفزيونية من مشاهد الحرب والرعب فسوف
نستطيع أن نموضع هذا موضع سؤال فلسفي، كسؤال نقدي
يروم خلخلة عالم الصورة، عبر الإنصات إلى ما نسيته آلة التصوير
حين تسجيلها للحدث أو للواقعة. صحيح أنّ التلفزيون أصبح
سيد السادة، سلطة السلط، ولأنه كذلك فالجميل يرجعه قبيحاً
والحرب إصلاحاً والكذبصدقاً، ... وغير ذلك.
«إنّ شرط الحدث لا يكمن إذن في الواقعة، فذلك تجريد
غير وجيه، وإنما في إذاعته ونشره، فالمتحكمون في الأصداء
.
4
والإدراكات هم أيضاً سادة التاريخ المباشر»
ألا يعني هذا الكلام نوعاً جديداً من التوتاليتارية تبعد المتفرج
عن الواقع؟ إنا لا تختفي كما يرى الأستاذ بنعبد العالي وراء
النازي أو الشيوعي، وبالجملة لا تختفي وراء فكر شمولي يوحد
الجميع عبر قهر الاختلافات وطمس الفواصل. إنّ الأخبار التي
تقدمها شاشات التلفزيون أصبحت المشروب السحري الذي
يتناوله الفرد يومياً، ولأنه كذلك فلم يعد بإمكانه التمييز بين
الخبر والواقع، بينصدقية الخطابوبطلانه، وبين تدخل الفلسفة
لقراءة هذا الذي لا يقدم نفسه بوضوح، هذا اللامفكر فيه الذي
يحتجب وراء الصورة، وراء المذيع الذي يقدّم الأخبار والبرامج.
لا يعني الاهتمام الفلسفي بهذا الفضاء إتلافاً لبوصلة الفيلسوف،
بل إنّ الفلسفة اليوم تبحث في مفعولات السلطة عبر مساءلتها
وخلخلة الخطابات الثاوية خلفها والحاملة لبريقها، «الفلسفة بما
هي مواجهة لكلّ نزعة كليانية، هي مواجهة للإعلام، إنا سعي
لتجاوز الإعلام كتقنية، ومحاولة لاسترجاع تلك القدرة على
.
5
التمييز، محاولة لإحياء حس الاختلاف وزرع الانفصال»
ألا يعني هذا قلباً لصورة حرب الخليج التي لم تقع بتعبير
بودريار،؟ لأنّ الحرب التي قدمتها القنوات التلفزيونية هي
244
ـ المرجع نفسه ص
4
.8
ـ عبد السلام بنعبد العالي ص
5
الصور، وكأنّ الحرب الحقيقية هي تلك الصور التي تمّ تسيبها
إلينا من مواقع معينة، وبالتالي ثمة ما لم تلتقطه آلة التصوير. أليس
هذا الذي لم يصور هو الحرب؟ ثم ألا تقدم لنا الصور خدع
الحرب؟ بما أنّ الحرب خدعة، فالصورة تتساوق مع الحرب
لا لتقدم الدم والضحايا والخراب بل لتقدم لنا فعالية الآلات
الحربية.
لاعجبإذن أن تكون الصورة التلفزيونية نسقاً ثقافياً وجماهيرياً
يفترض القبول والرفض مثلما يفترض التفسير والتأويل. هذا
الأمر لا يستقيم بالمنطق والنحو الكلاسيكيين بقدر ما يتطلب
منطقاً جديداً يستطيع من خلاله الدارس والقارئ معاً الإحاطة
بالصورة عبر كشف ما تخفيه وتعلنه. إنّ هذا الفعل القرائي يدخلنا
إلى قراءة التأثير القوي للصورة التلفزيونية، من حيث كونا تقود
الأفراد والجماعات، وقد سماه بعضهم «الغزو الثقافي»، لكنّ «عبد
الله الغدامي» لا يعتبره كذلك عبر تمييزه بين التأثير الجوهري
والعرضي. فالغزو بما هو كذلك يفيد الشكل (لباس- أطعمة-
أذواق...) ولا يحيل إلى الجوهر، بمعنى أنه إذا كان مجموعة من
الشباب يرتدون الجينز وآخرصيحات الموضة، وتسيحات الشعر،
والأكل السيع «الماكدونالدز»، فلا يعني هذا أنم متأمركون، إنّ
الغيظ إلى حدود الكراهية من أمريكا وإسرائيل ما زال قاراً في
جوهرهم، لا نريد الإحالة هنا إلى التقابلات التي يعيشها الإنسان
العربي بين الشيء ونقيضه، وكأنّ الشخصية العربية مركبة تفيد
الإيمان والاعتقاد بإنجازات العقل الإنساني (تكنولوجيات مثلاً)
وعدم اعتقادها بالعقل وأحكامه واستدلالاته.
سيشكل النقد الثقافي مجالاً خصباً لدراسة الصورة، صحيح
أنّ هذه الأخيرة تمّت مقاربتها بمقاربات علمية متعددة
كالسيميولوجيا والأنتربولوجيا والفلسفة... إلخ، لكنّ هذا
المجال الذي تمّ تداوله بشكل كبير في الجامعات الغربية له ما
يؤسسه نظرياً وإجرائياً، خصوصاً إذا نظرنا من وجهة النظام
الفلسفي مثلاً، فالنقد الثقافي بهذا المعنى يشتغل على الصورة من
جوانبها المتعددة، إن لم نقل إنه يستثمر العلوم الأخرى ويقوم
بتبييئها لصالحه، وهذا ما يشكل دعوة أحد الكتاب العرب إلى
ترويج هذه المقاربة النقدية، ليس للبحث عن شرعيتها في الثقافة
العربية، بل لكونا تمدّنا بأدوات نقدية للبحثعن السلط المضمرة
في ثنايا الصورة وخطاباتها المتعددة.
علوم وثقافة
بلاغة الصورة




