339
2016 )9(
العدد
الدين في مرآة التحليل النفسي
يُلاحظ أنّ فرويد نحا في الثلث الأخير من حياته منحى فكرياً
شمولياً سعى فيه لارتياد آفاق بعيدة عن المجال العيادي، فاتجه
لدراسة الآداب والفنون والتاريخ ونشأة الدين والحضارة. وقد
أسفرت كتاباته خلال هذه الحقبة عن تصورات هي أشبه ما
تكون بنظرة كونية منها إلى تصور علمي محايث للوقائع التي تقع
في دائرة الاختصاصوتخضع للبحث والتقصي العلمي الدقيق.
وفي هذا السياق لا يمكن أن نفهم نظرة فرويد للدين على
المستوى النفسي إن لم نربطها بنظرته لمنشأ الدين على المستوى
التاريخي. فكيف تمّ ذلك؟
يرى فرويد أنّ الأفكار الدينية نابعة من «ضرورة الاحتماء من
. وإذا كانت الأم التي تطعم الطفل من
15
التفوق الساحق للطبيعة»
الجوع وتؤمّنه من المخاطر الخارجية هي أولمحبوبله، فإنّ الأبما
يلبث أن يقوم مقام الأم طوال مرحلة الصبا بما أوتي من قوة وبأس،
لولا أنّ صلة الطفل به يعتريها قدر من المثنوية قوامها الخوف الذي
يستشعره منه جراء صلته الوثيقة بأمّه والإعجاب به. وحينما يتقدم
الطفل في العمر يكتشف أنه مقدر عليه أن يظل عاجزاً عن حماية
نفسه من القوى العليا والمجهولة، ومن ثمّ «يضفي عليها ملامح
هيئة الأب فيخلق لنفسه آلهة يخشاها ويسعى ليجعلها ملائمة
. وتبعاً لذلك ليست الأفكار الدينية
16
ويعزو لها مهمة حمايته»
خلاصة للتجربة أو للقدرة الاستدلالية للتفكير، «بل هي أوهام،
وتحقيق للرغبات الأقدم والأقوى والأشد للإنسانية، وسرّ قوتها في
. ولا يفتأ فرويد يلحّ على أنّ «المذاهب الدينية كلها
17
قوة رغباتنا»
أوهام، ولا يمكن التحقق منها ولا أحد يلزمه بأن يعدها حقيقة
وأن يؤمن بها». والوهم في عرف فرويد ليس بالضرورة زائفاً وإنما
يتميز بكونه نتاجاً للرغبات البشرية التي بوسعها أن تتحقق ولو
بمقدار. ومن ثمّ «فليس بوسعنا دحضها أو إثباتها».
26
الموافق لـ
1428
شوال
16
و
15
عبد المالك السعدي بتطوان (المغرب) يومي
). «آية الاستئذان والمشهد
2008(
للميلاد. انظر: أحمد المطيلي
2007
أكتوبر
28
و
.19-18 ،5 ،
الأصلي» في: المجلة الالكترونية لشبكة العلوم النفسية
15- S. Freud (1927). L’avenir d’une illusion. Paris, P.U.F., 1973, p. 63.
16- Ibid, p. 64.
17- Ibid. p. 84.
وموقف فرويد هذا لا يختلف عن الموقف العام لفلاسفة
الأنوار بشكل عام. وكلّ ما في الامر أنه أضاف البعد النفسي إلى
مجموع حججهم بأن جعل الدين عصاباً طفولياً قد يأمل المحلل
النفسي بأن تتمكن الإنسانية يوماً من مغالبته تماماً، كالطفل حينما
يشب عن الطوق. وهو يشترك في نظرته هذه مع النظريات
السائدة في القرن التاسع عشر، تلك النظريات التي غلبت عليها
الصبغة المادية المنكرة للوحي والرامية إلى تفسير الدين اعتماداً
على المكونات الطبيعية أو النفسية أو الاجتماعية فتجعله صنيعة
المؤسسات الاجتماعية. ونحن نعلم أنّ الفكر الوضعاني الذيساد
إبّان القرن التاسع عشر كان يرى أنّ ولوج الإنسان عتبة العلم
وسيادة التفكير العقلاني إيذان بتخطي المرحلة الدينية وفقاً لقانون
الأطوار الثلاثة للفيلسوف الفرنسي أوجست كونت.
تلك كانت نظرة فرويد للأسس النفسية للدين. أمّا من الناحية
التاريخية فقد أصدر النظرية الطوطمية التي لقيت رواجاً لدى
الرعيل الأول من علماء الإناسة في عصره. وقد اختلق فرويد
ما س ّه هو نفسه «الأسطورة العلمية المتصلة بالأب في العشيرة
البدائية»، هذا الأب الذي ارتقى فيما بعد إلى مكانة الخالق، وقد
كان في بداية الأمر يستحوذ على جميع نساء العشيرة قبل أن يقرر
يوماً أبناؤه قتله وافتراسه. غير أنم ندموا على ما اقترفت أيديهم
فقرروا سنّ نظام اجتماعي يحرّمون بمقتضاه الزواج من نساء
العشيرة، ويمتنعون عن قتل من يقوم مقام الأب (الطوطمية).
وقد رأى فرويد أنّ تصوره هذا يفس التحريمين الأصليين
الذي نجدهما في كل الأديان، وهما تحريم قتل الأب وتحريم زنى
المحارم، كما يفسّ مسألة الخطيئة الأصلية، وهي هنا خطيئة قتل
الأب بحسب فرويد، وما يترتب عنها من الإحساس بالذنب.
فرويد والتحليل النفسي: بين الرّفعة والضّعة
شخصيات وأعلام




