ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
38
2016 )9(
العدد
مركز الأرض»، ويرصد قاع البحر في رواية «عشرون ألففرسختحتسطح البحر»، ويغزو الفضاء إلى أن وصل إلى «الجزيرة المجهولة»،
حيث الإنسان الأبيض يسيطر على المعروف والمجهول معاً. وإذا كان في رواية «الخيال العلمي» التي مارسها جول فيرن ما يزور أركان
المستقبل قبل أن يأتي، فقد كان في «رحلة نابليون إلى الشرق» ما يستعيد استبداداً قديماً لا جديد فيه، قوامه الحرب ومبدأ الغلبة التي تراكم
الأموات، وتخبر أنّ «القتل الجماعي» لا زمن له.
عاشت الأزمنة الحديثة منذ البداية مفارقتها الصارخة، وجعلت من البربرية امتداداً طبيعياً للحضارة، ومن «الإنسان الأبيض» الذي
له كلّ الحقوق مرجعاً لبرابرة الشرق الذين لا حقوق لهم، بلغة الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم. ولهذا كان استهلالها الكبير «فتح
، وهو عنوان كتاب أخلاقي ممتاز للناقد تودوروف، كشف فيه عن مجازر «الهنود المتوحشين» في «العالم الجديد».
1492
أمريكا» عام
وبقدر ما أنّ «الفلاح المصري» كان له قيمه الحضارية الفعلية التي يجهلها «ابن الثورة الفرنسية»، كان لهؤلاء الهنود المسالمين أرضهم
وقيمهم وحضاراتهم المتوارثة منذ مئات السنين، وهو ما أشار إليه إدوارد غاليانو في كتابه «فتح أمريكا الذي لم يقع». وكان لهؤلاء الهنود
«أرواحهم»، التي لم يعترفبها الفاتحون البيض، والتي لم تقرّ الكنيسة بوجودها إلافي الثلث الأول من القرن الثامن عشر. أعطى غريفوار
شامايو في كتابه «صيد الإنسان» صورة نافذة ومروّعة عن «حضارة الإنسان الأبيض»، التي حوّلتصيد البشر إلى هواية ومهنة، وأزالت
الفروق بينصيد إنسان إفريقي وصيد خنزير بريّ. استشهد شامايو بباحث إفريقي قال: «حياة الإفريقي ليسلها أية قيمة، فنحن فرائس
كتلك التي يطاردها الصيادون في الصحراء، أو حيوانات يقتل منها الصياد قدر ما يشاء». ومع أنّ ذلك الصيد العجيب مارسه جميع
المستبدّين، بيضاً كانوا أو غير بيض، فقد أخذ أبعاداً شاسعة كما يقول شامايو، بعد «اكتشاف» أمريكا وصعود «التجارة الرأسمالية» بين
أوروبا وأمريكا.
أعطتتجارة العبيد التي جاء بها «العالم الجديد» إضاءة جديدة لثنائية الحضارة والبربرية. فبعد الأطروحة الأولى التي أكّدها الألماني
فالتر بنيامين، معتبراً أنّ في كلّ حضارة جديدة بعداً بربرياً وافداً، جاء «فتح أمريكا» ليقول:«كلما صعدت الحضارة صعدت معها
وجوه بربرية غير مسبوقة، بسبب وسائل وأدوات «حضارية» لم تكن متوفرة في زمن سبق». ولهذا قتلت «الكيمياء» أو «منجزات
المخابر العلمية» العدد الأكبر من الهنود، الذين كان ينعم عليهم «الفاتح الأوروبي» بملابس«مسمّمة» تحمل لهم الدفء والموت معاً.
كان الصهيوني «بن غوريون»، أو آخر يشبهه، يقول: «نستطيع استعمال السكان الأصليين في فلسطين في جمع العقارب والأفاعي»،
فإن لم تهلكهم المخلوقات السامة عالجتهم «مجزرة دير ياسين» في انتظار اقتلاعهم بأسلحة أخرى. أعطى الصهيوني قوله في الربع الأول
من القرن العشرين، بعد مرور زمن طويل على فلسفة ديكارت وتعاليم الألماني كانت عن «السلام الإنساني الدائم»، وتعاليم سبينوزا
الفاصلة بين الحرية والعبودية.
لماذا تنمو «الفلسفة المتحضرة» المحدثة عن الروح السعيدة والسلام في مكان وتتحوّل إلى «نقائضها» في مكان آخر؟ وما الفرق بين
كروزو الذي احتاج إلى «عبده جمعة» لتلبية حوائجه اليومية والقائد الصهيوني الذي كان ينظر إلى «الأرض العذراء»، وإلى سكان أصليين
يخلصونا من الأفاعي والعقارب؟ يقوم الجواب في أطروحتين لهما، ويعود ويلتحق بالزمن التاريخي في أطروحة ثالثة. تقول الأطروحة
الأولى: الشر الإنساني أبدي، حتى لو وُجد خيرٌ يواجهه، وهو ما أوجزه نجيب محفوظ في روايته «أولاد حارتنا». وتقول الأطروحة
الثانية: إنّ «جوهر الإنسان» الذي قالت به فلسفة التنوير الأوروبيلا وجود له، فما يوجد إنسان «بصيغة الجمع»، وشروط إنسانية بصيغة
الجمع أيضاً، وما يوجد قبل هذين البعدين «مبدأ القوة» الفاصل بين مجتمعات إنسانية متعددة.
تلتحقهاتان الأطروحتان المحدثتان عن مطلقاتالشروالجوهر لمواقع التاريخ الإنساني، حال العودة إلىجملة نجيبة للألمانية حنا أرنت:
«لا ينفصل الفعل العنيف أبداً عن الوسائل التي يستخدمها والغايات التي يقصدها، ...، حيث الوسائل تفيضدائماً على الغايات....».
فيصل درّاج




