Next Page  39 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 39 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

39

2016 )9(

العدد

والأساسي هنا، وفي مجال الحديث عن الحضارة والبربرية، هو

ليس وسائل الحضارة التي تتقدم متناقضة ولا تغير من «الجوهر

الإنساني» المفترض شيئاً، بل المقصود هو «وسائل البربرية» التي

يزيدها التقدم الإنساني بربرية، فلم يكن أحد يستطيع إبادة مئات

الألوف بالجراثيم المخبرية قبل «اكتشاف أمريكا»، ولم تكن هناك

إمكانية لقتل الملايين قبل «القنبلة الذرية»، التي اختبرت قدراتها في

.

1945

هيروشيما ونغازاكي في ناية الحرب العالمية الثانية

لا غرابة، انطلاقاً من المفارقة الأبدية الي تتلبّس ثنائية الحضارة

والبربرية، أن «تزدهر» البربرية كلما «ازدهر» العلم الإنساني. فمع

مجيء القرن العشرين جاءت كشوف إنسانية رائعة تحدث عنها

الفيلسوف آلان باديو في كتابه الكبير «القرن»، حيث آينشتاين

ونظرية النسبية، وهايزنبرغ ونظرية «اللاتحديد»، وسيجموند فرويد ونظريته في «اللاوعي»، وشونبرغ وتجديده الموسيقي، وعوالم السينما

والمسح والفنون التشكيلية وزمن الثورات الكبيرة الحالمة...، بيد أنّ «القرن» الأكثر إبداعاً كان الأكثر رعباً، والأكثر جمالية كان الأكثر

دموية، والأكثر ديمقراطية في مجال كان الأكثر استبداداً في مجال آخر، ولهذا عاش الفلسطينيون آثار الجريمة الأكثر رعباً وتمزيقاً في القرن

العشرين.

في تقديمه لديوان الشاعر «ولفريد أوين» كتب أوين نولز من جامعة «هل»: «القرن العشرون هو الأكثر دموية في التاريخ الإنساني.

الذي تبعته حروب متصلة لم تتوقففي فترات

1914

مليوناً، بدءاً من عام

87

فأعداد الأموات التي سببتها الحروب أو ارتبطتبها قارب

لاحقة، وذلك اعتماداً على شعارات مضللة مثل «وطنك بحاجة إليك»، و«التضحيات اللازمة استجابة لدعوات الرّب».

كانتحروب القرن العشرين حروباً بين الأمم أو حروباً ضد الأمم، بعيداً عن «فلسفة الحضارات» التي لم تصبح «صراع الحضارات»

إلا لاحقاً، وعلى مبعدة عن تعاليم غاندي ورواية جيمسحويس، وعلى مبعدة أوسع عن تعاليم السيد المسيح وتعاليم الأديان السماوية.

كما لو كانت «الحضارة الإنسانية» الواجب تقدمها تسير مع البربرية التي تكملها، أو كما لو كان في كلّ اقتراح حضاري، رغم تلعثم

الكلام، اقتراح بربري له شكل القانون.

. حضارة إنسانية أم حضارة غربية:

3

قرأت الأزمنة الحديثة بمصطلحات: الثورة العلمية، الثورة العلمية ـ الصناعية، المجتمع ما بعد الصناعي، الثورة العلمية ـ التقنية،

الثورة المعلوماتية...، وتحيل هذه الثوراتجميعاً على «التقنية» التي اعتبرتضمناً معياراً للحضارة والمجتمعات المتحضرة.

تضمنت الحضارة في معناها التقني تقدماً مستمراً، اختصرفي حقل معّ قابل للقياس والمعاينة، بعيداً عن حقل آخر لا تمكن معاينته

إلا نظرياً، عنوانه: القيم والأخلاق والمعايير المتبادلة بين المجتمعات الإنسانية، التي أخطأ بعضها التقدم العلمي والتقني معاً. ولذلك

بقي مصطلح «التقدم» غائماً، يشير إلى«الوسائل التقنية»، ويطرد «عالم الأخلاق» جانباً.

غير أنّ الفكر الفلسفي «المؤمن بجوهر الإنسان» يقول: إنّ التاريخ هو التقدم في القيم، وإنّ تاريخاً لا يتقدم قيمياً ويرتقي أخلاقياً

زائف، أو هو «تاريخ من نوع خاص». ومن المحقق أنّ تأمل «التاريخ الكوني المسيطر» يقول بالتاريخ والحضارة معاً، مؤكداً أنّ

هل هناك من حضارة إنسانيّة؟

أعطت تجارة العبيد التي جاء بها «العالم

الجديد» إضاءة جديدة لثنائية الحضارة

والبربرية. فبعد الأطروحة الأولى التي أكّدها

فالتر بنيامين، معتبراً أنّ في كلّ حضارة

جديدة بعداً بربرياً وافداً، جاء «فتح أمريكا»

ليقول: كلما صعدت الحضارة صعدت معها

وجوه بربرية غير مسبوقة، بسبب أدوات

«حضارية» لم تكن متوفرة من قبل