ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
40
2016 )9(
العدد
عالمية التاريخ من عالمية القوى التي تسيطر عليه، التي تمثلت منذ عدة قرون، وما تزال، بـ«الغرب». ولذا يمكن القول: كان التاريخ
الإنساني الحديث «غربياً»، بقدر ما كانت «الحضارة الحديثة» غربية أيضاً. تناول «بروس مازليش» في كتابه «الحضارة ومضامينها»
موضوعاً عنوانه: الحضارة باعتبارها إيديولوجية أوروبية، راجعاً إلى ميرابو وغوبينو ودارون. تتكشف الحضارة في الإيديولوجية
الأوروبية إسهاماً أوروبياً، محوره إنسان محدد له دينه وثقافته وبقعته الجغرافية، «يتح ّ» وينتج البربرية معاً، دون أن يعترف «بإنسان
الأطراف» إلا بمعايير الردع والاحتلال والتدمير، والأمثلة على ذلك كثيرة. ولذلك يبدو الحديث اليوم عن الحضارة الإنسانية «أمراً
فارغاً»، طالما أنّ هذه الحضارة تنصاع إلى مبدأ: القوي والضعيف، المنتصر والمهزوم. ولن تغّ «الدعوات الطيبة» القائلة بحوار
الحضاراتشيئاً.
أوصلت ثورات الغرب المتواترة المجتمع الإنساني إلى «العولمة» التي هي ثورة تقنية بامتياز، أنتجتها الرأسمالية العالمية، وأعادت إنتاجها
في الآن نفسه. جمعت «العولمة»، حال كلّ ثورة تاريخية، بين وضوح الوسائل وعدم وضوح الأهداف، منتهية إلى «عولمة مجزوءة»، تحتفي
«بالمعلومات» في عالم بعضأطرافه لايحسن القراءة والكتابة، ويعمل أكثر ويعيش أقل، ويملكغيره حقه في الملكية ويدفع به إلى الخراب.
ولأنّ «سادة العولمة» يسيطرون على الوسائل ولا يستطيعون السيطرة على الأهداف، جاءت معها العولمة التي وعدت بالديمقراطية
والازدهار، بظواهرها الضرورية: عولمة الفقر، عولمة الإرهاب، الإسلام المتعولم، رأس المال المتعولم، الاستبداد المتعولم....، دون أن
تستولد لزوماً «حضارة متعولمة» بالمعنى الإنساني النبيل، إلا إذا اعتبرنا «الحضارة المتعولمة» تحالفاً بين التقدم التقني ورأس المال.
الفرنسي الأقرب إلى اللاهوت «تيلهارد دي شاردان» قدّم في خمسينات القرن الماضي، أو ما يقاربها، كتابه «الظاهرة الإنسانية»، الذي
قرأ الفرق بين التقدم في «الروحانيات» والتقدم في الماديات، «مشيراً ضمناً إلى إنسان مغترب يحتاج تجاوز اغترابه إلى ما هو أكثر من
التقنيات والوسائل المادية». ذلك أنّ الإنسان عقل وروح وقيم وإيمان ويقين ...، وقد قارب الاغتراب الإنساني الذي لم تفعل التقنية
إزاءه شيئاً، قبل سنوات قليلة، الأمريكي مايكل آداسفي كتاب يفصح عنوانه عن مضمونه «الآلات باعتبارها مقياساً للرجال»، الذي
قرأ فيه الفرق بين «جوهر الإنسان» والعقلانية الأدواتية المشددة إلى الكم والإنتاجية والربح.
بين تاريخ الغرب المتعولم منذ قرون، وعالم القيم الإنسانية التي دعا إليها الفلاسفة والأنبياء، مسافة غير قابلة للتجسير. تحدث
الإنجليزي كبلنغ ذات مرّة عن «الشرق والغرب اللذين لا يلتقيان»، مازجاً بين الحضارة والقوة والعنصرية مزجاً صريحاً ما يزال يتناتج
ّ لأنه قوي، وغيره بربري لأنه ضعيف، ولا يستطيع أن يكون أبيض أو قوياً
إلى اليوم. إذ الحضارة هي القوة والإنسان الأبيض متح
أو متحضراً.
إنّ الحديث اليوم عن «الحضارة الإنسانية» وحوار الحضارات مرآة لإيديولوجية محددة هي: إيديولوجية الضعفاء، هؤلاء الذين
يحلمون بالمساواة في فضاء «متعولم» واسع لا مكان فيه للمساواة، وفيه الكثير من المكان لشيء مغاير هو «البربرية».
إشارات:
.
611
و
16
، ص:
4102
)، الكويت،
214
ـ بروس مازليش: الحضارة ومضامينها، عالم المعرفة (
1
2- Gregoire chamayou: Les chasses à l’ hom me, La fabrique, paris, 2010, p: 65.
3- Hannah Arendt: Du mensonge à la violemce, pocket – calman levey – 1972, p.106.
4- The poems of wil fred owen, words worth editions, 1987, p; 5- 7.
فيصل درّاج




