Next Page  37 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 37 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

37

2016 )9(

العدد

وإذا كان كروزو قد امتلك جزيرة موحداً بين العمل والملكية،

ملبياً تعاليم مواطنه الفيلسوف جون لوك، فإنّ الفرنسي نابليون

امتلاك مصر، سائراً وراء قناعة

1799

بونابرت شاء في حملته عام

تقول: «إنّ من يحكم مصريحكم العالم». ومع أنّ نابليون وكروزو

توازعا حلماً واحداً فإنّ أقدارهما اختلفت، على مستوى الوسائل

والمآل الأخير. فقد بلغ كروزو جزيرته بعد أن تحطمت السفينة

التي كانت تقلّه، وعاش في الجزيرة ـ الغابة، ونصّب ذاته حاكماً

وحيداً عليها، بينما سار نابليون مع جيشعصري وعلماء ومترجمين

ورغبة كاذبة في اعتناق الإسلام، أقرب إلى الفكاهة، ولم تضع مصر

بين يديه «عبداً» بريئاً سهل الانقياد، بل واجهته بفلاحين يرفضون

احتلال بلادهم. وكان من المفترضأن ينشر الضابط الطموح «أنوار ثورته الفرنسية» على مصر، وهي التي قالت بكونية حقوق الإنسان،

وأن يعترف بإنسانية الفلاحين المناهضين لاحتلاله. غير أنه وهو يقف أمام «الآخر»، الذي لا يريد أن يتعلم اللغة الفرنسية، أعاد سريعاً

تعريف «الإنسان الكوني»، مؤكداً ثنائية الأعلى والأدنى، إذ للأول مدافعه وعلماؤه القادرون على ترجمة اللغة الهيروغليفية وخيوله التي

تجتاح ساحة الجامع الأزهر، وإذ للثاني حق الخضوع، ذلك أنّ «بربريته» لا تتيح له حق المواجهة والتمرد، وإلا أنزل به «ابن الثورة

المتحضر» عقاباً صارماً. ولهذا قيّد الضابط الفرنسي آلاف الفلاحين الذين قاتلوه وهزمهم، وألقى بهم في نر النيل، على اعتبار أنّ حقوق

الإنسان لها ترجماتها المتعددة، التي تحتفل «بالإنسان الحضاري الشامل»، وتلقي بـ«المتخلّف» المهزوم طعاماً للتماسيح.

طبّق كروزو، وهو في غابة معزولة، مبدأ الفصل بين السيد والعبد تطبيقاً صارماً، بعيداً عن نابليون الذي انسحب من مصروحاصر

مدينة عكا في فلسطين، التي حين استعصتعليه قام بدك أسوارها، وحينصمدت أسوارها أحرق الريف المجاور لها، وصادر أملاك

الفلاحين، وطالبهم بالتنازل عن كرامتهم والدفاع عن أحلامه، إلى أن انتهى مهزوماً، بعد أن خذلته «سياسة الأرض المحروقة».

والسؤال البسيط: من الذي يجعل «إنساناً متحضراً» يعتقد أنّ من حقه حكم شعب غير شعبه؟ ولماذا يعبث عبثاً شديداً بتعاليم ثورته

إذا واجهه فلاحون يدافعون عن أرضهم ودينهم ولا يريدون تعلّم اللغة الفرنسية؟ والجواب أكثر بساطة: إنّ مبادئ الحضارة مقصورة

على الإنسان المنتصر الذي يعهد إلى ذاته بتعريف الحضارة والبربرية معاً. ذلك أنّ المنتصرين، أو الأقوياء المحصنين بالسفن والمدافع،

يخترعون هويتهم وهويّة غيرهم، ويقررون أنّ هويّة الضعيف هي ضعفه، وأنّ هويّة القوي من قوته ومن وسائل استخدامها. وبداهة،

فإنّ العقل المتحضر، إن كان للكلام معنى، يرفض احتلال أرض الغير، وإنّ «المتحضر الحقيقي» هو الذي يقاتل الغازي الذي احتل

أرضه، لأنّ الدفاع عن أرضوهويّة مستقلتين تعبير شخصيعن الكرامة الذاتية، فلا «حضارة» لإنسان يقبل باحتلال أرضه.

. الحضارة والبربرية في مرآة ثانية:

2

حين كان كروزو «يعيد خلق إنسان الغابات» مقرراً أنّ البشر مراتب، وأنّ «المساواة» بينهم مجرد «بلاغة متحضرة»، كان الغرب قد

أنجز ثورات متعددة، ودخل مرتاحاً إلى «الأزمنة الحديثة» التي تستهل «تاريخاً إنسانياً» جديداً، فقد لازمت، ولو بقدر، الثورة الفلسفية

التي جاء بها الفرنسي ديكارت «فارس الأزمنة الحديثة»، بلغة مواطنه عالم الاجتماع آلان تورين، والثورة العلمية التي ترجمتها وتترجمت

بها «الثورة الصناعية»، إعلاناً عن حضارة إنسانية غير مسبوقة، تسيطر على ما تحت الأرضوعلى ما فوقها أيضاً.

وحين كان نابليون يلقي بالفلاحين المصريين في نر النيل، ويرتكن إلى سياسة الأرض المحروقة في فلسطين، بعد أن أعيته مدينة عكا،

كان مواطنه جول فيرن يحتفي روائياً بالثورة العلمية، ويكتب «حول العالم في ثمانين يوماً»، وينفذ إلى باطن الأرضفي روايته «رحلة إلى

هل هناك من حضارة إنسانيّة؟

بدا المسار الإنساني في مشاريعه «الحضارية»

المتواترة بصيراً وأعمى معاً: بصيراً في

الغايات التي يقصدها، وأعمى في الأدوات

التي تحقق الأهداف. انطوى الأمر في

الحالتين على مفارقة مؤسية، فما يظهر عقلانياً

في مجال يتكشّف عماء لا عقل فيه في مجال

آخر