ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
43
2016 )9(
العدد
وهنا يميز هايدجر تمييزاً دقيقاً في تعريف «الإنسان» بكونه
«حيواناً» بين «الحيوانيّة» بمعنى «الجسميّة» ـ للإنسان «جسم
حي»، ومن ثمة فهو «حيوان» ـ و«الحيوانية» بمعنى «البهيمية».
فلئن هو حق أنّ «الإنسان» «حيوان» بما أنّ له «جسماً»، أي بما
هو «كائن حي»، فإنّه لا يحق من هذه الجهة نفسها أنّه «حيوان»؛
بمعنى «بهيمة همجية». فما كانت سمة «الجسمية» في «الإنسان» ـ
بما هو «حيوان» ـ من «البهيمية» في شيء. وما يفتأ هايدجر يردد
القول: «كلا، ما كانت الجسمية في الإنسان من الحيوانية [البهيمية]
. إذ ما
3
في شيء، ولا هو صح اعتبارها بهذا النحو من الاعتبار»
كان بمكنة الإنسان أبداً أن يمسي «حيواناً» ـ أي «طبيعة» ـ وإنّما
شأنه أنه «شأن» و«هوان»: شأن؛ لأنّ بمكنته أن «يسمو» على «الحيوان»، حين «يرقى». وهوان؛ لأنّ بمكنته أن «يهوي» دون «الحيوان»
ـ فيمسي «بهيمة» ـ حين هو يتدنى، أمره بين التعلي ـ فوق الحيوان ـ والتدلي ـ تحت الحيوان، أمّا أن يكون هو والحيوان سواء، فلا. إنّ من
شأن الإنسان أن يهوي إلى الدرك، وما كان من شأن الحيوان أن يهوي إلى الدرك. ذلك أنّ الذي من شأنه أن يرقى هو الذي من شأنه أن
.
4
يهوي، والحيوان عن ذلك بمنجى ومنأى ومعزل ومبعد
والمترتبعن هذا أنّ حقيقة «الإنسان» ـ في الفكر الميتافيزيقي ـ أنه ما كان «حيواناً»، وإنّما هو بالأحرى «بهيمة عاقلة». ولئن هو كان لمقتضيات
هذا التعريف من أمر مستحب، فإنما كونه يحيل، من حيث لا يدري ولا يحتسب، إلى إمكان أن يتحقق للإنسان التدلي والتردي من درجة
«الإنسانية» ـ أو «الآدمية» ـ إلى درك «البهيمية». وإذا ما كان قد تحدد للحيوان إطاره الأنطولوجيفي الطبيعة ـ أي طبيعة كينونته من حيث ما هو
كائن ـ بما هو «حيوان» ولاشيء غير أنّه «حيوان»، فإنّ بمكنة «الإنسان»، وعلى خلافه، أن يغير العناصرالتي تحدد كنهه الكينوني ـ الأنطولوجي
ـ فيتدنى عن كينونته الإنسانية، وذلك ليس نحو كينونة «حيوانية»، وإنّما نحو كينونة «بهيمية» لا جماح لها. ومن ثمة، كانت للإنسان وحده الميزة
. وفضلاً عن هذا،
5
المريبة على التدلي أسفل سافلين؛ أي النزول إلى أسفل من «الحيوان»، بينما «الحيوان» يبقى قابعاً في «حيوانيته» لا يتردى دونا
ما كانت «الحيوانية» عيباً في الحيوان، إذ هي سمته الأنطولوجية أو الوجودية، بينما «البهيمية» عيبفي الإنسان، وأيّ عيب هي!
والحال أنه، بدءاً، نكاد لا نعثر على مثل هذا التمييز الهايدجري الدقيق بين «حيوانية» الإنسان و«همجيته» لدى أول فيلسوفعربي ـ أي لدى أبي
يعقوب الكندي ـ إذ نراه، في «حدوده»، يميز في «الإنسان» بين «نصيبملائكي» هو الحياة والنطق، و«نصيببهيمي» هو الحياة والموت، فالإنسان
.
6
«ملاك» باقتران الحياة بالنطق، وهو «بهيمة» باقتران الحياة بالموت، وإنسانية الإنسان تكمن عنده في اقتران هذه الثلاثة: الحياة والنطق والموت
ـ انظر على سبيل المثال:
3
Martin Heidegger et Eugen Fink, Héraclite : séminaire du semestre d’hiver 19661967-, traduit de l’allemand par Jean Beaufret et Patrick
Lévy, classiques de la philosophie, Paris : Gallimard, 1973, p. 201.
4. Martin Heidegger, De l’essence de la vérité : Approche de l’ « allégorie de la caverne » et du « Théétète » de Platon, Traduit de l’allemand
par Alain Boutot; Bibliothèque de philosophie, Paris: Gallimard, 2001, p. 264- 265.
5. Martin Heidegger, Schelling : Le Traité de 1809 sur l’essence de la liberté humaine, traduit de l’allemand par Jean-François Courtine ;
classiques de la philosophie, Paris : Gallimard, 1977, p. 249.
ـ أبو يوسف يعقوب الكندي: رسالة في حدود الأشياء ورسومها، ضمن كتاب: رسائل الكندي، تحقيق عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة حسان، القاهرة، الطبعة الثانية،
6
.130 .
بدون سنة إصدار، ص
«الإنسانيّة» و«البهيميّة» في الفكر الفلسفي العربي الكلاسيكي
كانت للإنسان وحده الميزة المريبة على
التدلي أسفل سافلين؛ أي النزول إلى أسفل
من «الحيوان»، بينما «الحيوان» يبقى قابعاً
في «حيوانيته» لا يتردى دونها. وفضلاً عن
هذا، ما كانت «الحيوانية» عيباً في الحيوان،
إذ هي سمته الأنطولوجية أو الوجودية، بينما
«البهيمية» عيبفي الإنسان، وأيّ عيب هي!




