Next Page  44 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 44 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

44

2016 )9(

العدد

محمد الشيخ

على أنّه بعد ذلك نعثر على «أشباه» و«نظائر» ـ وأكثر من هذا نعثر على «تواردات»ـ لهذه الفكرة في الفكر الفلسفي العربي الإسلامي.

فقد طرح فلاسفة العرب والإسلام هذا السؤال: ما معنى أن يكون الإنسان إنساناً بحق؟ ومتى يفقد «إنسانيته»، ويصير أشبه شيء ما

يكون بالبهيمية، فتنقلب «إنسانيته» «بهيمية»؟ وما معنى «الإنسانية»؟ وما مدلول «البهيمية»؟

والحق أنّه منذ أن وَجّهَ الفيلسوف العربي المغبون ابن كوشك سؤاله إلى أحد علماء الكلام: «يا سيد، بِمَ عرفت أنك إنسان؟» ومسألة

«الإنسان» و«غير الإنسان» ما تزال مطروحة في الفلسفة العربية الإسلامية، بل طرحتحتى قبل وضع السؤال على نحو هذا الوضوح،

بله حتى بعد وضعه. وهّ أمسى من الواجب أن يعرف «الإنسان» نفسه تُرى من يكون؟ وقد أجاب إخوان الصفا عن هذا السؤال

بالقول: «اعلم، وفقك الله، أنّ الإنسان إذا ادعى معرفة الأشياء وهو لا يعرف نفسه، فمَثَله كمثَل من يُطعم الناس وهو جائع، وكمَثل

من يداوي غيره وهو مريضسقيم عليل، أو كمن يكسو الناسوهو عريان وعورته للناس بادية ما أن يواريها، أو كمَثل من يهدي الناس

إلى الطريق وهو ضال لا يعرفطريق بيته. وقد علمتم أنّ في هذه الأشياء ينبغي للإنسان أن يبتدئ أولاً بنفسه ثم بغيره». وأجاب الحكيم

المغبون الآخر في التراث الفكري والفلسفي العربي الراغب الأصفهاني بأنّ معرفة الإنسان ذاته واجب، وذلك حتى وإن هو لم يتبين

حقيقة نفسه، ومنه ذاته، فقال مقدماً كتابه في الإنسان الذي سماه «تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين»:

«وابتدأتُ بالتنبيه على وجوب معرفة الإنسان ذاته، فمن علم أنّ شيئاً هو ممّا يجب أن يُعلم، فإنّه وإن لم يعلمه فقد حصل له بذلكعلم.

فمن العلم أن تعلم أنك لا تعلم. وعلم الإنسان بجهله أحد العلمين [علم الإنسان بما يعلم، وعلم الإنسان بما يجهل: وهو المقصود

.

7

هنا]»

لربما في البدء كان الفيلسوف المأساوي أبو حيان التوحيدي صاحب إحدى أعظم العبارات التي كتب لها أن تقال في الفلسفة العربية

الإسلامية عن «الإنسان»: «فإنّ الإنسان قد أشكل عليه الإنسان». إذ في تضاعيف المسألة الثامنة والستينمن المسائل التيسأل التوحيدي

عنها مسكويه، ضمن تأليفهما المشترك «الهوامل والشوامل»، دار الأمر على مسألة «النفس»، وبعد أن بسط أبو حيان التوحيديسؤاله عن

النفس وإشكالاتها، عقب على سؤاله بالقول: «وأوسع من هذا الفضاء [يعني فضاء الحديث عن النفس] حديث الإنسان؛ فإنّ الإنسان

قد أشكل عليه الإنسان».

وبعد، ما الذي أشكل، يا ترى، على الإنسان من الإنسان وفي الإنسان؟ كلّ شيء تقريباً أشكل. وعلى رأس ما أشكل على الإنسان في

الإنسان ومن الإنسان سؤال التشكيك الجذري الأول:

. هل ثمّة من وجود للإنسان الإنسان حقاً؟

2

قد نعتبر وجود «الإنسان» أمراً بدهيّاً لا يحتاج إلى مساءلة، وذلك بدليل الشاهد. فنحن نحيا بين بني الإنسان ونصادفهم كلّ أنواع

المصادفات من أقرب الدوائر التي نحيا فيها إلى أبعدها. ولهذا السبب، قد لا يخطر ببال أحد أن يتشككفي وجود «الإنسان»، وأن يتساءل

عّ إذا كان «الإنسان» موجوداً حقاً. وبقطع النظر عن جدل «الاسميين» و«الواقعيين»، في العصر الوسيط، الذي تعلق بما إذا كانت

المفاهيم الكليّة ـ شأن مفهوم «الإنسان» ـ موجودة في الواقع ماثلة للعيان بالفعل، أم لا، فإنّه نشأ جدل آخر بين مثبتي وجود الإنسان ـ

ولنسمّهم «المثبتة» ـ ونفاة أن يكون الإنسان ـ بالنظر إلى تردي أخلاق الزمان ـ موجوداً حقاً ـ ولنسمّهم «النفاة». إذ العديد من مفكري

العرب نفوا أن يكون يوجد، على الحقيقة، «إنسان». إنّما كل ما يوجد هناكشيء «شبيه بالإنسان» أوشيء «مسيخ للإنسان».

.53 .

، ص

1988 ،

  ـ الراغب الأصبهاني: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، تحقيق عبد المجيد النجار، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى

7