ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
46
2016 )9(
العدد
محمد الشيخ
؛ وذلكلأنّ
11
يكون إنساناً)، وما كان الإنسان «وهباً» يُعطى (يوهب إلينا بالولادة)، ولهذا كثيراً ما تراه يتحدثعن «اكتساب الإنسانية»
الإنسان الحق عنده: «[ليس] يرضىبأن يكون حيواناً وقد أمكنه أن يصير إنساناً».
ب ـ جواب ابن ميمون: قد يتحوّل الإنسان إلى أسوأ من حيوان
يرى الفيلسوف العبري الذي عاشفي كنف الحضارة العربية الإسلامية موسى بن ميمون أنّ ثمة للإنسانصورة إنسانية بالحقيقة ـ هي
صورة الإنسانية الحقة، وصورة إنسانية بالتخطيط؛ أي أنّه قد تكون له «خطاطة» إنسان، وما هو بإنسان من حيث «الصورة»؛ أي «الكنه»
و«الجوهر». ويضيف قائلاً: «وقد علمت أنّ كل من لم تحصل له هذه الصورة التي بيّنا معناها، فإنّه ليسهو إنساناً، بل حيوان على شكل
الإنسان وتخطيطه. لكن له قدرة على أنواع الأذيات وإحداث الشرور ما ليس لسائر الحيوان. إذ الفكرة والروية التي كانت معدة لحصول
.
12
الكمال الذي لم يحصل يصرفها في أنواع الحيل الموجبة للشرور وتوليد الأذيات؛ فكأنّه شيء يشبه الإنسان، أو يحاكيه»
والحال أنّ فكرة موسى بن ميمون هذه تذكرنا بما سوف يذهب إليه مارتن هايدجر في ما بعد من أنّ تردي الإنسان إلى مرتبة «البهيمة»
يدل على خبث ومكر لا نجده عند الحيوان الذي يعيش على فطرته. ومن ثمّة كان الإنسان وحده الكائن الذي يحسب ويخطط ويمكر.
ومتى يصير الإنسان غير إنسان؟
.
3
كثيراً ما تناول فلاسفة العربوالإسلام الإنسان والحيوان بالمقارنة، وكثيراً ما أظهروا «فضل» الإنسان على الحيوان. وقليلاً ما تشككوا
في ذاك «الفضل»، وحتى حين فعل إخوان الصفا ذلكفي رسالتهم عن تداعي الحيوان على الإنسان، عادوا ليثبتوا الفضل لا العدل. على
أنّ بيان «فضل» الإنسان على الحيوان، كما أظهره العديد من فلاسفة العرب والإسلام، ما منع هؤلاء من أن ينبهوا إلى أنّ هذا الفضل
ـ إن وُجد، وقد يحدث ألا يوجد ـ ليس فضلاً موهوباً له، وإنّما هو بالأولى فضل مكسوب له؛ بمعنى أنّ إنسانية الإنسان التي يُفترض
أنّه يفضل بها على حيوانية الحيوان وبهيمية البهيمة هي «أفق»؛ أي قيمة يُسعى إليها ويُتطلع ويُطمح ويُتاق، وليست هي «معطى» أعطي
الإنسان بالوراثة منذ أن كان؛ أي ما كانت أمراً يوهب. ولهذا يقول وزير الإمتاع والمؤانسة: «ولهذا الترتيبسرّ به حسن هذا النعت، وإليه
انتهى هذا البحث، وذلك أنّ خفاء ما خفي بحقّ الأوّل الحق، وبدوّ ما بدا من نصيب أطلق للّذي لا يحتمل غير هذا الثقل، ولو خفّف
عنه هذا للحق الإنسان البهائم، ولو ثقل عليه هذا للحق الملائكة، فكان حينئذ لا يكون إنساناً، وقد وجب في الأصل أن يكون إنساناً
كاملاً بالنّصب والدّأب، ويمتعض من أن تكون صورة الإنسان عنده معارة، لأنّه في الحقيقة حيوان غير ناطق، بل يجتهد بسعيه وكدحه
أن يصير إنساناً فاضلاً، ويكون في فضله وكماله ملكاً؛ أعني بالمشاكهة الإراديّة لا بالمشاكهة النوعيّة».
ولهذا أيضاً ما كان الإنسان، في الفكر الفلسفي العربي، ليأمن أن يتردى إلى درك الحيوان، بل إلى ما هو أسوأ من ذلك، درك البهيمة.
أ . الفارابي: حينما يمسي الإنسان بهيمة
يرى أبو نصر الفارابي أنّ الإنسان يستبد به نزوعان متعارضان يتعاورانه: واحد يدفعه نحو درك «البهيمية»، والثاني يجذبه إلى درجة
«الإنسانية»، وهو كالعاثر الواقف بينهما. ويعقد الفارابي فقرة بالغة الدلالة بهذا الصدد في رسالته في السياسة، فيقول:
.53 .
ـ انظر، مثلاً، المصدر السابق، ص
11
.60 .
، ص
2011 ،
ـ موسى بن ميمون: دلالة الحائرين، تحقيق: حسن أتاي، منشورات الجمل، بغداد/بيروت
12




