Next Page  49 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 49 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

49

2016 )9(

العدد

«الإنسانيّة» و«البهيميّة» في الفكر الفلسفي العربي الكلاسيكي

مباينون. وذلك أنّ فعل الإنسانية ـ التي بها كلّ واحد من الناس ناس ـ الخاص بها، وهو العقل بالفعل، غير موجود لهم. ولذلك لا

يستحقون اسم الناس. فكما أنّ اليد إذا عدمت فعلها الخاص بها ليست بالحقيقة يداً، فكذلك العين والأذن. وبالجملة، كلّ ذات تعدم

فعلها الخاص بها تعدم مع عدمه وجودها الخاص، ولذلك لا تستحق اسم تلك الذات، وإن سمّيت بذلك الاسم فإنّما تسمى به لغير

استحقاق. فلذلك لم يعد الفيلسوف من شابه الناس ـ الذين هم بالحقيقة ناس لوجود فعل الإنسانية الخاصبها له ـ بصورة بدنه، وعدم

.

16

وجود فعل الإنسانية الخاصبها، ناساً. ويحق فعل ذلك، وبالصدق قال. فقد انعكس عيب عائبه عليه، ورجع عيبه إليه»

ب . مسكويه: في فقد النطقية فقد للإنسانية

الذي عند الفيلسوف الإسلامي مسكويه أنّ شاهد «الإنسانية» في «الإنسان» إنّما هو خصيصة «النطقية» ـ بالمعنى الإغريقي: العاقلية

ـ بهذه الخصيصة يكون له «حظ من الإنسانية»، وهو حظ قد يضؤل أو يزيد على قدر الإنسان من العاقلية، فالمستزيد منها «أحق باسم

الإنسانية» ولهذا يقال: «فلان كثير الإنسانية»، و«هو من أبلغ ما يمدح به»، فإذا تخلى عنها: «انحط الإنسان عن رتبته العالية إلى رتبة ما

هو أدنى منه»؛ يعني رتبة «البهيمة». ومن جوانب تخلي الإنسان عن العاقلية ـ التي هي الإنسانية ـ شدة غضبه، فمن شأن الغضب غير

المسيطر عليه أن يجعل الإنسان «يجري على منهاج البهيمة»، بحيث تمسي«الإنسانية» فيه «يسيرة» بينما «البهيمية غالبة»، ويقوى فيه «قسط

البهيمية» ويقلّ «حظ الإنسانية». قال مسكويه:

«(...) ثمَ نصير إَِ الإِنسَان الَذِي شَارك النَبَات وَالحَيَوَان ِ موضوعاتها، فَنَقُول: إِن الإِنسَان من حَيثُ هُوَ حَيَوَان قد شَارك البَهَائِم ِ

غَرَض الحيوانية وكمالها؛ أَعنِي ِ نيل اللَذَات والشهوات والتماس الراحات وَطلب العِوَض َِا يتَحَلَل من بدنه، إَِ أَنّ الحيوانية لما لم

تكن صورته الخَاصَة بِهِ، المميزة لَهُ عَن غَيره لم تصدر هَذِه الأَشيَاء مِنهُ على أتم أحوالها؛ وَذَاكَ أَنّا نجد أَكثر الحَيَوَانَات تزيد على الإِنسَان

ِ َِيع مَا عددناه، وتفضله فِيهَا بالاقتدار على التزيد وبالمداومة وبالاهتداء. وَلما كَانَتصورته الخَاصَة بِهِ الَتِي ميزته عَن غَيره هيَ العقل

وخصائصه من التَميِيز والروية - وَجب أن تكون إنسانيته ِ هَذِه الأَشيَاء، فَكلّ من كَانَ حَظه من هَذِه الخصائص أَكثر كَانَ أكثر إنسانية

.

17

في هذه الأشياء، كما أنّ الأشياء التِي عددناها كلما كَانَ مِنهَا حَظه من صورته الخَاصَة بِهِ أَكثر كَانَ فَضله ِ أشكاله أظهر»

وقال مسكويه في مكان آخر موضحاً هذه الفكرة: الإنسانية وصورة الإنسانية لا تخاطيط الإنسان والتي تميز بين من يسميه الإنسان من

حيث هو «إنسان عاقل» ومن يسميه الإنسان من حيث «حيوان بهيمي»:

«العلم ك ََل الإِنسَان من حَيثُ هُوَ إِنسَان؛ َِنَهُ إِنمََ صَار إنسَاناً بصورته الَتِي ميزته عَن غَيره؛ أَعنِي النَبَاتوالجماد والبهائم. وَهَذِه الصُورَة

الَتِي ميزته لَيست ِ تخاطيطه وشكله ولونه. وَالدَلِيل على ذَلِك أَنَك تَقول: ف َن أَكثر إنسانية من ف َن، فََ تَعنِي بِهِ أَنه أتم صُورَة بدن،

َ ِ الأُمُور، وَبَين الحسن

وَ أكمل فيِ الخلق التخطيطي، وََ ِ اللَون، وََ ِ َء آخر غير قوته الناطقة الَتِي يُمَيّز بهَا بَين الخَير وَال

والقبيح ِ الأَفعَال، وَبَين الحق وَالبَاطِل ِ الاعتقادات. وَلذَلِك قيل ِ حد الإِنسَان: إِنَه حَيّ نَاطِق مائت. فَمُيّزَ بالنطق؛ أَعنِي بالتمييز

بَينه وَبَين غَيره، دون تخطيطه وشكله، وَسَائِر أغراضه ولواحقه.

وَإِذا كَانَ هَذَا المَعنى من الإِنسَان هُوَ مَا صَار بِهِ إنسَاناً، فَكلما كثرت إنسانيته كَانَ أفضل ِ نَوعه. كََ أَنّ كلّ مَوجُود ِ العَالم إِذا كَان

فعله الصَادِر عَنهُ بِحَسبصورته الَتِي تخصه، فَإِنَهُ إِذا كَانَ فعله أَجود كَانَ أفضل وأشرف. مثل ذَلِك الفرسوالبازي من الحَيَوَان، والقلم

  ـ يحيى بن عدي: تفسير يحيى بن عدي للمقالة الأولى من كتاب أرسطوطاليس الموسوم بمطاطافوسيقا؛ أي في «ما بعد الطبيعيات»: نشر ضمن كتاب مقالات يحيى

16

.226-225 .

، ص

1988 ،

بن عدي الفلسفية. تحقيق: سحبان خليفات، منشورات الجامعة الأردنية، عمان

، ص.

1951 ،

  ـ أبو حيان التوحيدي وأبو علي مسكويه: الهوامل والشوامل، تحقيق أحمد أمين والسيد أحمد صقر، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة

17

.218-217