ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
66
2016 )9(
العدد
ولا يعزي إلياسهذه النتائج لأسباب إثنوغرافية خاصة بالفرد الغربي وإنّما لاستعداد قبلي وكوني مشترك بينجميع البشر، فالفرد البشري
لا يعّ عن رغباته الطبيعية الجامحة فحسب، بل يبدي استعداداً طبيعياً لممارسة الرقابة على دوافعه وغرائزه. وبالتالي، فإنّ أسس «الحضارة
الغربية» قائمة في الطبيعة البشرية الكونية المشتركة، وليست حكراً على قوم دون قوم آخرين، الأمر الذي لا ينفي وجود اختلافات على
مستويات قوة وأشكال الرقابة والضبط، وهذا وحده، ما يفسّ تعدد مسارات الحضارة المنفتحة على إمكانات مختلفة.
البراديغم الأنواري: من الهمجيّة إلى الحضارة
في لحظة ما من تاريخ الثقافة الأوروبية، أصبحت الطبيعة في حاجة إلى التدخل، حيث فقدت فكرة «الكمال الذاتي» للطبيعة بداهتها،
التي وجدناها لدى كلّ من مونتيني وروسو. كيف أصبح التدخل في طبيعة الإنسان أمراً محموداً ومطلوباً؟
، وهو تحسن رأى دولباخ أنّه لم يتحقق
6
تعني الحضارة في نظر دولباخ «تحسين أنماط الحكم والقوانين والتربية والمؤسسات والأخلاق»
ّ الشعوب بعيد المنال، تفصله عن عصره قرون. وفي الاتجاه نفسه تسير وجهة
بعد في أيّ من بلدان عصره، وكان هذا المفكر يعتبر تح
.
7
نظر إيمانويل كانط، الذي يرى أنّ عصرتحقق الأنوار لم يحن بعد
الصورة التي تعّ عن حالة الحضارة في التمثل الأنواري، هي حالة كمال تام للفرد والمجتمع البشريين، وعلى جميع الأصعدة، من قوانين
وتربية ومؤسسات وأخلاق، لكنها وضعية لن تقوم إلا في المقبل من أيام البشر. ويقتضي أمر إقامتها مجهوداً بشرياً مشتركاً. إنّ من يقرأ هذه
الأفكار سيدرك بحدس مباشر الدور الأساسي لمفهوم التقدم في هذا التمثل، والنظرة التاريخية ـ فلسفة التاريخ- الثاوية خلف هذا التمثل.
ويحدد كوندورسيه حالة الاكتمال هاته في ثلاث نقط أساسية: «هدم التفاوت بين الأمم، وتحقيق المساواة داخل كلّ شعب، وتحسين الواقع
.
8
البشري»
هدم وتحقيق وتحسين، مفاهيم تحيل على فاعلية تتدخل في مجرى الأحداث وسيرورة التاريخ لإنجاز المهام التاريخية للإنسانية، وهي
، تكاملت فيها الإرادة الإلهية مع الإرادة الإنسانية، من أجل تسيع التقدّم. ففي المنطلق كان الوحي
Lessing
فاعلية، يضيف ليسينغ
. ويؤكد
9
الإلهي يَليه التدخل البشري متمثلاً في حركة الأنوار الأوروبية (إنجيل العقل) التي ينبغي عليها استكمال تربية الجنس البشري
ليسينغ أنّ العقل البشري قادر على بلوغ كلّ الحقائق، غير أنّ هذا لا ينفي دور اللحظات العظمى في التاريخ، وهي لحظات تمكّن من
إنجاز الطفرات لتقليصمدة معاناة الإنسانية منشرّ الجهل والألم والعنف.
لقد حاولنا أن نبين شبه الإجماع الحاصل بين فلاسفة الأنوار حول انتظار التغيرات الثورية المقبلة، منظوراً إليها من زاوية «عقيدة
. وهذا يعني في نظرنا أنّ الأنوار أدخلت في مفهوم الطبيعة البعد التاريخي، بحيث أنّ هذا البعد هو الذي يحقق كمال الطبيعة،
10
التقدم»
وأنّا بدونه تظل ناقصة.
6- D’Holbach, Système social, cité par Claude Liauzu, Race et civilisation, Syrios/Alternatives, Paris, 1992, p. 25.
- إذا كانت الحضارة وفق التصور الأنواري تتجسد في القوانين والأخلاق والعلوم المبنية جميعها على حرية العقل واستقلاليته، فإنّ جواب كانط لا محالة هو أنّ الحضارة
7
تعترضها عوائق قبل أن تنتشر في كلّ بلدان المعمورة. يقول كانط: «إذا سئلنا الآن إذن: «هل نعيش حالياً في عصر مستنير؟»، فإليكم الجواب: «لا، بل في عصر يسير نحو الأنوار».
.132 .
، ص
48
إيمانويل كانط، «جواب عن سؤال: ما هي الأنوار»، ترجمة حسين حرب، الفكر العربي، العدد
8- Condorcet, Esquisse d’un tableau historique des progrès de l’esprit humain(1795), cité par Claude Liauzu, op. cit. p. 27.
9 - Lessing, L’Education du genre humain, tr. P. Grappin, Aubier-Montaigne, Paris, 1968.
10 - R. Koselleck, Le règne de la critique, tr. Hans Hindelbrand, Minuit, Paris, 1979, p. 133.
حاتم أمزيل




