ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
65
2016 )9(
العدد
الإنسان الغربي نفسه ونقله من حالة الهمجية والبربرية والوحشية
إلى حالة الحضارة. غير أنّ الإقدام على هذه الخطوة فرض تغيراً على
مستوى النظر الفلسفي للطبيعة عامة والطبيعة البشرية على وجه
الخصوص. هل الطبيعة جوهر مكتمل وتام أم أنّا تتطلب التدخل
والتغيير؟ هل الطبيعة مكتفية بذاتها لتحقيق غاياتها الحقيقية أم أنّا
في حاجة إلى تدخل خارجي؟
لعل السؤال الذي نقف عنده الآن محور التحول الجذري الذي
عرفته الثقافة الغربية، وخصوصاً في شقها التكنولوجي، لكننا
سنكتفي بالإشارة إلى التغير الجذري الذي عرفه النظر إلى الطبيعة
الإنسانية وإمكان (أو عدم إمكان) التدخل فيها، وهو الإشكال
الذي قاد إلى تغير جذري في المجتمعات الغربية الحديثة فيما أطلق
بـ «سيرورة التحضر».
Norbert Elias
عليه نوربيرت إلياس
ارتبطت فكرة النظر إلى الحضارة باعتبارها نتيجة سيرورة تحضر(العملية والمسار) في السوسيولوجيا المعاصرة بنوربيرت إلياس، وهي
.
5
Sur le processus de civilisation
الأطروحة التي احتواها مؤلفه الكلاسيكي في مجاله
لقد اختُزل التمثل الغربي لمفهوم الحضارة منذ القرن التاسع عشر (كما سنوضح فيما يلحق) في مكامن تفوق المجتمعات الغربية مقارنة
بمجتمعات الماضي من جهة والمجتمعات البدائية المكتشفة مؤخراً من جهة أخرى، أي في مستوى تقدمها التكنولوجي واختياراتها
الأخلاقية وتطورها العلمي وتصورها للعالم. ويلاحظ نوربيرت إلياس أنّ الموقف العنصري الناتج عن التفوق الحضاري الغربي وليد
مرض أصاب الثقافة الغربية المعاصرة هو مرض النسيان. فقد نسي عنصريو القرن التاسع عشر سيرورة التحضر التي خضع لها أفراد
ومجتمعات الفضاء الثقافي الغربي، وهذا النسيان هو ما يقف وراء الاعتقاد الراسخ بالتفوق الفطري والطبيعي للإنسان الغربي.
ولاستعادة هذا الماضي المنسي لجأ نوربيرت إلياس إلى كتابة تاريخ سيرورة التحضر الغربية، التي يمكن اختزالها في تاريخ التربية
والتوجيه اللذين خضع لهما الفرد الغربي، بداية من طرق الأكل وصولاً إلى طقوس النوم، مروراً بكيفية الاهتمام بالنظافة من مسح الأنف
والبصق والتبول والتبرز واللباس.
إنّ ما يعتبره الإنسان الغربي المعاصرصادراً عن أوامر داخلية نشأ في البداية عن إكراه خارجي مارسته مؤسسات الضبط، فقد خضع
هذا الفرد لتاريخ من المراقبة حوّل الرقابة الخارجية المعتمِدة على أجهزة التربية والضبط الاجتماعية والسياسية إلى رقابة داخلية. ويُرجع
إلياس الدور الحاسم في تهذيبسلوك الفرد الغربي إلى احتكار الدولة لسلطة المراقبة وفرضضوابط وقواعد العيش الاجتماعي المشترك.
إلا أنّه اتخذ لدى إلياس دلالة خاصة. يميز ألفريد فيبر بين السيرورة الاجتماعية والسيرورة الحضارية
Alfred Weber
- رغم أنّ المفهوم من إبداع أستاذه ألفريد فيبر
5
والسيرورة الثقافية. فإذا كانت السيرورتان الأولى والثانية تخضعان لمنطق التقدم والتطور وتتجسدان في مظاهر خارجية قابلة للملاحظة مثل العلم والتكنولوجيا، فإنّ
السيرورة الثالثة ثقافية وروحية وداخلية غير خاضعة لمبدأ التقدم، وتسير وفق ترسيمة دورية مقسمة بين فترات ازدهار وفترات انحدار. أمّا ما يفسر التغيرات التي
تلحق كل مجتمع، فإنّ فيبر يردّه إلى تركيب السيرورات الثلاث.
- S. Mennell, « Civilisation », in Les notions Philosophiques, sous la direction de Sylvain Auroux, PUF, 1990, pp. 326 - 327.
اتهام فكر الأنوار بتقديم الأساس
الإيديولوجي لحركة الاستعمار الأوروبي
دعوى رائجة. فقد نظرت الدول الأوروبية
حينها إلى نفسها بأنّا الحامل للقيم الكونية
التي دافع عنها فلاسفة الأنوار، ومن ثمّ
اعتقدت هذه الأمم أنّ الرسالة التاريخية
الملقاة على عاتقها تكمن في نقل هذه القيم إلى
ًالمجتمعات «البدائية» الثابتة ثقافياً، والباردة
إبداعيا
الهمجيّة والحضارة: آليّة إصلاح الطبيعة البشريّة في الثقافة الغربيّة الحديثة




