Next Page  69 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 69 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

69

2016 )9(

العدد

أن تجتمع استراتيجيات للضبط الخلقي والجسدي في الآن نفسه،

وتظهر مجموع هذه الاستراتيجيات في حقبة محددة، وأن تعمل

بمعايير ترتكز في شموليتها على الثنائية المفاهيمية نفسها، فذلك

لا يمكن أن يكون من باب المصادفة، كما أنّه لا يمكن أن يحدث

في كلّ مجتمع.

شارلز تايلور والمجتمع الانضباطي

يعتبر تايلور، في الجزء المعنون بـ «حلول المجتمع الانضباطي»

أنّ جذور الحضارة الغربية المعاصرة

21

من كتاب «العصر المدهرن»

الذي برز إبّان النهضة. فلأول مرّة في تاريخ الثقافة الغربية التفتت النخبة إلى

la civilité

تأسست على الاهتمام بآداب السلوك المدني

عامة المجتمع، وقررت إخراج أفرادها من التخلف والاقتتال والعنف. فعلى مرّ التاريخ كانت الخاصة منغمسة في نعيم الذوق الرفيع

والأخلاق الهادئة والسلم بين أعضائها وفق أخلاق مرعية وأنماط سلوك متواترة ومتوارثة، غير أنّ القرن السادس عشر عرف تحولاً في

السلوك النخبوي، وفق ثنائية متحضر/متوحش، وانطلاقاً من تصور يعتبر أنّ التحضر والثقافة تطويعٌ للطبيعة وتدخل فيها، وإقصاء

للمتوحش وقضاء عليه عبر التربية وتنظيم الحياة الاجتماعية وتهذيب السلوك الأخلاقي ووضع قوانين لضبط العلاقات داخل المدينة.

يلاحظ تايلور أنّه، في بداية الأمر، كان الاهتمام بصحة العوام وبحسن تغذيتهم نابعاً من الخوفعلى مصير النخبة ذاتها، ليتبين فيما بعد

أنّ هذا الاهتمام فيه مصلحة للدولة ولقوتها؛ فتوجيه الدعم للعوام بدا في البداية لأهداف اقتصادية (استغلال طاقاتهم)، وفيما بعد ظهر

أنّ هذا الاهتمام سيكون له نتائج إيجابية على القوة العسكرية وعلى تطور هذه القوة (في زمن كان نطاق الدول والإمارات يتسع ويضيق

بحسب موازين القوة العسكرية).

في هذا الإطار من الممكن تفهّم الغايات من وراء قوانين مواجهة الفقر (الحد من انتشار الأمراض والجريمة والفوضى). لكن هل

يسمح هذا الإطار في فهم الغاية من منع الحفلات العامة والكارنفالات الذي فُرضفي الفترة نفسها؟ وبماذا يمكن تفسير اجتماع واتفاق

جلّ الطوائف الدينية المتصارعة حول الهدف نفسه (بروتستانت وكاثوليك)؟ هل يدخل منع الاحتفالات في إطار مشروع التنظيم

الاجتماعي المعلن؟

يرى تايلور أنّ الأمر يتعلق بمشروع واحد برز إبّان المرحلة الأخيرة من العصرالوسيط، وتأثرت به حركة الإصلاح، وهو أنّ الالتزام

بمبادئ الإيمان يجب أن يكون عامّاً، ولا ينحصرفي النخبة. وهو ما تبنته حركة الإصلاح الديني، رافضة ربط التراتبية الاجتماعية بتوزيع

المهام والأعمال الدينية والدنيوية، وهو الرفض الذي شكل مبدأ من مبادئها الأساسية. وهذا يعني عدم إهمال أعمال العامّة من الناس أو

النظر إليها نظرة احتقار، الأمر الذي سوّغ توجيه الدعوة لكلّ الناس من أجل الورع والتقوى والابتعاد عن المفاسد الأخلاقية. وبذلك

أصبحت أخلاق المجتمع مسألة جماعية.

هذا لا يعني أنّ البروتستانتية قامتعلى الإيمانفي أنّ الخلاصهو خلاصجماعي، على العكسلقد حافظتعلى العقيدة الأوغسطينية

القائلة إنّ القلة القليلة هي الناجية، غير أنّ الإصلاح ربط النجاة بالعمل، مع إضافة مهام جديدة لأعضاء القلة الناجية تتمثل في مراقبة

المجتمع ورعاية أفراده وحمايتهم من الزلل والخروج عن الصراط المستقيم.

21 - Charles Taylor, L’Âge séculier, tr. Patrick Savidan, Boréal, Canada, 2011.

الهمجيّة والحضارة: آليّة إصلاح الطبيعة البشريّة في الثقافة الغربيّة الحديثة

الصورة التي تعّ عن حالة الحضارة في

التمثل الأنواري، هي حالة كمال تام للفرد

والمجتمع البشريين، وعلى جميع الأصعدة، من

قوانين وتربية ومؤسسات وأخلاق، لكنها

ًوضعية لن تقوم إلا في المقبل من أيام البشر.

ويقتضي أمر إقامتها مجهوداً بشرياً مشتركا