Next Page  70 / 362 Previous Page
Information
Show Menu
Next Page 70 / 362 Previous Page
Page Background

ملف العدد: الهمجيّة والحضارة

70

2016 )9(

العدد

لقد انتهى زمن القسّ المنزوي في ديره، البعيد عن الشأن الاجتماعي، لم يعد الابتعاد عن شؤون الناس طريقاً إلى الخلاص، بل أصبح

.

les puritains

الاهتمام بشؤونم عملاً مقدّساً مع الطهرانيين

قاد هذا التغير الجذري في مهمة المؤمن إلى تساوق بين ثلاثة مسارات لم يكن بينها رابط في الماضي، وهي: الحفاظ على النظام العام

والسلم الاجتماعي وشفاء النفس من أمراض الغريزة والشرور. وقد ساهمت النزعة الطهرانية في التنظيم الاجتماعي الجديد بمنحها

الإطار الثقافي والروحي لهذا المشروع. أمّا عن العوامل المادية المساعدة في هذا التحول، فتكمن في تلاحم المصلحة العسكرية والأهداف

الاقتصادية التي دفعت إلى البحث عن ساكنة عاملة منضبطة وذات سلوك حسن. وبذلك نحا الاتجاه العام إلى تقديس تدريجي للتقدم

والمطالبة بتحسينشروط العيش المشترك. ونظراً لكون هذا الأمل قد أضحى محرّكاً لتفكير الناس وعملهم في ذلك الزمان، فإنّ مؤرخ

الأفكار يمكنه ملاحظة انتشار عدم التسامح في الفضاء الاجتماعي، آنذاك، تجاه بعض أنماط السلوك التي ظلت مقبولة في الماضي مثل

الدعارة والاختلاط في الحفلات العامة، فقد أصبح الاتجاه العام هو قمع الرغبات وتوجيه العواطف والسيطرة عليها درءاً لكلّ مفسدة

تحت مسوّغ حماية المجتمع.

ولكشف البرنامج الذي اعتمده المجتمع الغربي لبناء الحضارة، يرى تايلور أنّ المؤرخ لا بدّ له من الاهتمام بتاريخ السلوك المدني،

لأنّ قرارات القرن السادس عشر تشكل المنطلق والأساس التاريخي للحضارة الغربية الحالية، خصوصاً بعدما ارتبط هذا البرنامج

بسلطة مركزية اضطلعت بمهمة تطبيقه ومتابعته، ويقصد تايلور مؤسسة الدولة الحديثة التي شكلت التميز الفاصل بين مسار الحضارة

.تنظيم العمل ومنع التسول، بعدما

1 :

الغربية وباقي المسارات الحضارية التي عرفتها «بقية بلدان العالم». وتتحدد بنود البرنامج في

.تحريم المفاسد الأخلاقية والاختلاط في الكرنفالات مع ما تسمح به الرقصات من

2 ،

أصبح العمل قيمة اجتماعية والعطالة نقيصة

احتكاك مشين للأجساد. فقد دعت الكنيسة إلى تجنب هذه المظاهر الشيطانية، لكنّ الجديد هو الإجماع حول التحريم من جهة، ومن

.أصبح في القرن السادس عشر وضع التوجيهات التي تسعى

3 ،ً

جهة أخرى أصبح المنع يتوجه إلى كلّ أعضاء المجتمع، نخبة وعواما

.تمّ

4 ،

إلى نشر الانضباط شأناً سياسياً، بحيث أصبحت الدولة المطلقة تضع الضوابط التي تتماشى وأهدافها العسكرية والاقتصادية

.انتشار

5 ،

الإصلاح الاقتصادي والعسكري في الدويلات الأوروبية بفضل حماس ديني ساهمت فيه الكالفانية والمدارس الطهرانية

.

22

الاهتمام بالمناهج والإجراءات الانضباطية على صعيد الأفراد الذاتيين

ما يزكي فرضيتنا في هذا المقال، والتي نعتبر من خلالها أنّ تغيراً لحق مفهوم الطبيعة الإنسانية ونقله من مفهوم الجوهر الثابت إلى تصور

جديد مضمونه قابلية هذه الطبيعة للتبدل والتحول هو تأكيد تايلور على الأهمية التي أضحى مفهوم الإرادة يحتلها في النسق الأخلاقي

الحديث. ويرى تايلور أنّ الأخلاق القديمة اليونانية والهيلينية والمسيحية حاولت في أحسن الأحوال توجيه الطبيعة أو تصفيتها من

الشوائب، وكذلك كانت الأخلاق الرواقية. كما أنّ التمييز بين إرادة خيرة وإرادة شريرة تمييز مسيحي، يصادر عدم وجود إرادة بإمكانا

تغيير جوهر الفرد تغيرا كلياً. أمّا التمييز الحديث فإنّه يقوم على ثنائية إرادة ضعيفة وإرادة قوية، بحيث تقتضي الفضيلة إرادة قوية، ومع

هذا المفهوم نكون قد ابتعدنا عن التمييز المسيحي.

يقوم التصور الحديث للسلوك الأخلاقي المدني على معنى إعادة بناء الذات، وهذا ما ألمحنا إليه في طيات حديث تايلور عن المهام

الاجتماعية والدينية للنخبة الحديثة. يقول تايلور: إنّنا نتصور ذاتنا كمادة خام يجب عجنها. وتبدو هذه الأخلاق قريبة من التصورات

الأخلاقية القديمة والمسيحية، إلا أنّا تختلف عنها من حيث تركيزها على مفهوم الإرادة.

22- Ibid., pp. 198 - 205.

حاتم أمزيل