ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
71
2016 )9(
العدد
ميشيل فوكو: المراقبة والمعاقبة، وولادة الإنسان الغربي المعاصر
يتناول ميشيل فوكو في كتاب المراقبة والمعاقبة تاريخ خلق وإبداع المواطن الانضباطي في الثقافة الغربية المعاصرة، حيث يبين هذا
الفيلسوف كيف اجتمعت استراتيجيات المؤسسات التي تشرف عليها الدولة الحديثة (المستشفى والمصنع والمدرسة والسجن والثكنة
العسكرية)، علىضبط ومراقبة وتنظيم حياة الفرد لتُشكّل هيئته وصورته التي نراها في عصرنا. غير أنّ قراءتنا لهذا المتن (المراقبة والمعاقبة)
كشفت لنا مجدداً أنّ الثنائي المفهوميهمجية/حضارة ظلّ ثاوياً في إصلاحات المؤسسات العقابية عند المنعطف الفاصل بين القرن السابع
عشر والقرن الثامن عشر، وفق التأريخ الذي يقترحه ميشيل فوكو للسياسات العقابية وميلاد المؤسسة السجنية.
من المعلوم أنّ عقوبة الحبس كانت منتشرة منذ أزمان قديمة في القصور ودور العبادة وبيوت القواد العسكريين وضيعات
الأرستقراطيين...، لكنّ السّجن بناء على أوامر مختومة أو بناء على أوامر السلطة التنفيذية هو آلية جديدة في العقوبة، إضافة إلى ما
صاحبها من تنظيم للأكل والنوم والاستراحة والنظافة.
إنّ القراءة السيعة لتاريخ العقاب في المجتمع الغربي الحديث والمعاصر، قد تدفع صاحبها إلى الاعتقاد بأنّ السجن حلّ محل أساليب
العقاب القديمة بشكل مفاجئ، بينما تكشف القراءة الأركيولوجية التي اعتمدها ميشيل فوكو، وبالملموس، التحولات البطيئة على
مستوى الذهنيات وزوايا النظر وتصورات العالم.
إنّ ظهور مؤسسة السجن تعبير عن تحول في الحكم والتقييم مسّ الغاية من العقاب، حيث لم يعد إيذاء الإحساس أو إيلام المجرم
. إثر هذا التحول شهدت أوروبا زوال
23
هو الهدف الأساس وإنّما الإصلاح والعلاج والشفاء أو «التكفير عن الذنب بالمعنى الدقيق»
التعذيب التشهيريومشاهد التقطيع والحرق وثقبلسان المجدفينوالتغطيسفي الماء المغليوقرصالحلمتينوالعصروالخنق والتعريض
للحيوانات المفترسة. ورغم هذه الكثرة في أشكال التعذيب، فإنّ هذا الأخير لم يكن عشوائياً، لقد ظلّ يعمل وفق خطوات محسوبة
وقواعد مفصلة، لأنّه انتصار للعدالة، لذا وجب أن يكون مشاهَداً فوق منصة أو وسط ساحة عمومية دون اكتراث لفظاعة المشهد،
لأنّ الغرضمن عرضه هو أن يقبل المشاهِد بوحشية السلطة وبربريتها من جهة، ويزرع الخوففي نفسيته من جهة ثانية، فـ «أنين المجرم
.
24
وصراخه تحت الضربات لم يكن أمراً جانبياً مخجلاً، إنّه تكريم للعدالة بالذات»
، وألغي في فرنسا سنة
1834
لكنّ القرن التاسع عشر رفض هذه الفظاعات، فقد تمّ إلغاء الوسم بالحديد المحمّى في إنجلترا سنة
26
، وقبل هذا الإلغاء «شُجب التنكيل (استخدام العنف الجسدي لانتزاع الاعتراف) كبقية من بقايا بربرية العصور القديمة»
1832
25
وسمة من سمات وحشية تُرفض باعتبارها ممارسات وسطوية. يقول أحد مصلحي النصف الثاني من القرن الثامن عشر: «لا أستطيع
أن أمنع نفسيمن الأمل بأن يكون غير بعيد الوقت الذي تصبح فيه المشنقة وعمود التشهير، ومنصة الإعدام والسوط، والدولاب،]من
.
27
أساليب[ التعذيب الماضية، معتبرة من علامات مراحل بربرية العصور والبلدان»
.52
، ص
1990 ،
- م. فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة علي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت
23
.72
- المرجع نفسه، ص
24
.53
- المرجع نفسه، ص
25
.75
- المرجع نفسه، ص
26
.53
- المرجع نفسه، ص
27
الهمجيّة والحضارة: آليّة إصلاح الطبيعة البشريّة في الثقافة الغربيّة الحديثة




