ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
72
2016 )9(
العدد
سرعان ما أصبح التعذيب لا يحتمل، لأنّه ينمّ عن الظلم والتجاوز والثأر والتلذذ القاسي بالمعاقبة. لقد رفض المصلحون، ومنذ
النصف الثاني من القرن الثامن عشر، العنف الطقوسيلما فيه من إسراف وقسوة، وهذا ما دفع وزارة العدالة الفرنسية إلى إصدار مرسوم
يدعو إلى تطبيق «عقوباتمعتدلة ومتناسبة مع الجرائم، وأّ يحكم بعقوبة الإعدام إلا على المجرمين القتلة، وأن يلغى التعذيب
1789
سنة
.
28
الذي ينافي الإنسانية»
ويلاحظ ميشيل فوكو أنّ كلّ المجهود المعرفي للقرن التاسع عشر، الذي اتخذ من المجرم موضوعاً له، ركز علىضرورة احترام «إنسانيته
واستهداف إصلاحه وتحويله إلى فرد اجتماعي. فقد سعى علماء هذا القرن إلى تحديد النقطة التي يجب التوقف عندها أثناء
29
(المجرم)»
العقاب، والمدى الذي يشكل تجاوزه اعتداءً على الكرامة الإنسانية.
وسياسة قضائية بديلة، كان شعارهما المشترك: العقاب
30
في هذا الإطار طفت إلى السطح «أخلاق جديدة خاصة بفعل العقاب»
اللاجسدي. وبمقتضىهذا التحول توجهت العقوبات إلى تفادي أساليب إيذاء الإحساس، وإلى «الحرمان من كلّ الحقوق دون تعريض
، إنّه زمن مؤسسة السجن وكلّ المعرفة العلمية التي ولدت معها.
31
للألم» وذلك بـ«فرضعقوباتخالية من الوجع»
هي موضوع المحاكمة في السياسة الجديدة للعقاب، وهذا ما يفسّ توجّه المحققين بأسئلة مغايرة عن القديمة، من
32
أصبحت الإرادة
قبيل: «هل الواقعة مقررة، وهل هي جرمية؟ هل ردة فعل عُصابية أم حدثت في لحظة هذيان أم أنّا تعبير عن انحراف؟ لم تعد المسألة
ببساطة: «من هو فاعل الجريمة؟ بل: كيف يمكن تحديد العلاقة السببية التي أحدثتها؟ وأين يقع داخلَ الفاعل مَنشؤها؟ هل هو غريزة،
. وبذلك لم يعد همّ العدالة القبض على الجاني، بقد ما أصبح غرضها تحديد مصدر الجريمة ودوافعها
33
لا وعي، وسط، أو وراثة؟»
وشروطها وظروفها والغاية من اقترافها والقصد الذي وراءها، لكي يتمّ تحديد التدابير الملائمة للعقاب، وآليات الإصلاح، ومكمن
الخطأ والمصدر الحقيقي للجريمة. لهذا يمكننا الحديث عن سيميولوجيا قبلية للجريمة، بحيث أضحى من الضروري تحديد مكامن
الخلل التي أدّت إلى وقوع الجريمة، وذلك بغية وضع تصور لأشكال التدخل بحسب مهام ووظائف كلّ طرف اجتماعي، كلّ من موقعه
وتخصصه لدرء الأخطار القادمة واستباق الجريمة. لم تعد استراتيجيات العقاب تكتفي بإدانة ما حدث في الماضي، بل إنّ واجب هذه
الاستراتيجيات الإنذار بالجرائم المستقبلية والمحتملة، حمايةً للمجتمع.
هذا هو السياق الذي يمكّن المؤرخ من فهم أسباب إدماج الأطباء وعلماء النفس وعلماء الاجتماع وعلماء التربية ومهندسي التعمير
ورجال الدين في جسم القضاء، إنّ العدالة الحديثة تريد من كلّ الجهات والمؤسسات داخل المجتمع تحمّل المسؤولية.
لا ندّعي في هذه القراءة بأنّ ميشيل فوكو انخدع بتخلي نظم العقوبات الغربية عن الطرق العنيفة والدموية لصالح آليات لطيفة في
الحبسوالإصلاح، وأنّه سقطفي إيديولوجيا إنسانوية تعتبر السجن تعبيراً عن تقدم حققته الإنسانية مقارنة مع العصور السالفة. لقد بّ
هذا الفيلسوف أنّ الآليات العقابية الجديدة تعيد استثمار الجسد ـ المعذبسابقاً- في إطار «اقتصاد سياسي» تُستثمر في إطاره «قوة الجسد
.103
- ذكره م. فوكو، المرجع نفسه، ص
28
104
- م. فوكو، المرجع نفسه، ص
29
.54
- المرجع نفسه، ص
30
.53
- المرجع نفسه، ص
31
- لاحظ اتفاق شارلز تايلور وميشيل فوكو حول مفهوم الإرادة.
32
.59
- المرجع نفسه، ص
33
حاتم أمزيل




