ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
90
2016 )9(
العدد
داخل قانونه، وبعد أن فوّضه المتعاقدون للدولة ومؤسساتها. ولكن كيف نفسّ تناسل أشكال مستحدثة
10
امتصّه علم الصراع أو النزاع
من العنف (العنف الديني الجهادي والعنف الإرهابي) خارج هذين الحدين؟ ثم أين يمكن أن نُنزل براديغم العنف الديني بأشكاله
القديمة-الجديدة؟ هل في علم الصراع الموجب الخالق للقيم والمحرك للتاريخ؟ أم ضمن نزعات العنف الفردية المكبوتة؟ أم في خانة لم
نحددها بعد؟
إنّ ما يثيرحيرتنا حقاً، حين نأتي إلى براديغم العنف الديني، هوصعوباتمنهجية َول دون وضعه ضمن براديغمي العنف البيولوجي
(عنف البقاء) والعنف الصراعي (عنف حسن البقاء)، إذ هو في الحالتين لا يهدف إلى الحفاظ على حياة الفرد، ولا إلى الاعتراف الذي
قد يخوضه الإنسان الديني ضدّ الإنسان «اللا-ديني». فعَمّ يبحث العنف الديني؟ وعن أيّ رهان يدافع إن لم يكن هدفه حفظ البقاء
وتجويده؟
العنف الديني هو بالتعريف عنف ثقافي وليس طبيعياً، وباعتباره كذلك فهو متأخر في صيرورة التاريخ، إذ شهدت الإنسانية نمطي
العنف السابقين، وتقدّمت بفضلهما. وعليه لا يمكن إدراجه ضمن لائحة العنف المادي بنمطيه، بلضمن خانة العنف الثقافي والرمزي،
وعلينا بالتالي أن نتوسل مقاربة أنثربو-تحليلية للأديان والمعتقدات لهتك أحجيته وفك أسراره.
يؤكد التناول الأنثربو-تحليلي للأديان أنّا لم تقترن بنيوياً بالعنفضد الإنسان، بل من أجل حماية المقدّس من عبث الإنسان. لقد
اقتضت طبيعة البشر الميّالة للعدوانية والعصيان أن يكون مقدّسهم عنيفاً وقاسياً، بشكل يردعهم عن إتيان المُنكرات والتعدي على
بعضهم بعضاً. كانت تمثلات الآلهة على مقاس العدوانية المفترضة في كلّ ذات، وكان الهدف ليس العنف ضدهم، بل إجبارهم
بالترهيب والترغيب على التوحد حول مقدّس طوطمي أو بشري (فرويد)، يضمنون من ورائه وحدتهم ويعززون من قوتهم ضد
.
11
الأعداء
هكذا اقترن المقدّس بالعنف، من أجل نزع فتيله بين أبناء القبيلة الواحدة، بحيث يبدو وكأنّ كلّ فرد منهم فوض كلّ طاقته العنفية
لهذا الأقنوم، لقاء الظفر بالطمأنينة الروحية والاجتماعية. ولهذا ندرك الآن منسوب الخشية والترهيب والخشوع الذي أودعه المتدينون في
.
12
التمثلات الأقنومية (أصنام، حيوانات، كواكب، عناصرطبيعية) كإجرائية تصعيد للعنف القابع داخل أفئدتهم
ولا شك أنّ هذا التسامي هو الذي أنقذ الحضارات الأولى من «حرب الكلّ ضد الكلّ» المدمرة للنسل (هوبز). والطريف أيضاً أنّ ما
أنجزه المتعاقدون في حداثتنا المتأخرة من تنازل عن عنفهم الفردي، بمعنى حقهم في القصاص من المعتدين لفائدة هيئة قضائية وقانونية
محايدة لقاء الفوز بالسلام الدائم، لا يختلف-إلا من حيث الشكل- عن حيلة التسامي بالعنف إلى رمز جماعي/أسطوري، يحمي الأفراد
المعتقدين فيه من تعديات بعضهم على بعض.
وبهذا نخلص إلى القول إنّ ما كانت تقوم به الأديان من امتصاص لطاقة العنف وتحويلها بالكامل إلى المقدّس الديني أو الدنيوي، هو
الدور نفسه الذي باتت الدولة الحديثة تقوم به، عندما احتكرت العنف وشرّعته لنفسها.
53
ـ آرنت، ص
10
.185.
)، ص
1983 ،
ـ سيغموند فرويد، الطوطم والحرام، جورج طرابيشي (مترجم)، (بيروت، دار الطليعة
11
.187.
ـ فرويد، ص
12
مصطفى بن تمسك




