ملف العدد: الهمجيّة والحضارة
88
2016 )9(
العدد
مصطفى بن تمسك
لم يسجل التاريخ هدنة للعنف البشري بكلّ درجاته وأشكاله، بل إننا نلاحظ أنّه بقدر ما تتقدم الإنسانية، بقدر ما تستحدث أشكالاً
غير مسبوقة من العنف تتراوح من الماكروفيزيائي الى الميكروفيزيائي، من الغليظ إلى الناعم، من المادي إلى الرمزي، من فوق إلى تحت،
ومن تحت إلى فوق، ...إلخ.
لم تفلح الحداثة السياسية بتقنيات الديمقراطية والتعددية وعُلوية القانون والمؤسساتفي كبحجماح العنف الإنساني، بقدر ما مأسسته،
. ولم تفلح قبلها الأديان بترسانتها الترهيبية والترغيبية في اقتلاع العنف من فؤاد الإنسان.
4
واستملكته فيما بات يعُرف «بالعنف المشروع»
يضاف إليها كلّ أنظمة التربية الاجتماعية (العائلة، المدرسة)، وكلّ آليات التأديب السجنية.
فهل يعني هذا أنّ العنف متأصل في الطبيعة البشرية، وأنّ ما يجب أن نُقوّمه ليس الإنسان، بل جبلّته العدوانية التي فُطر عليها رغماً
عنه؟ وبما أنّ ما طُبع في الجبلّة لا يتغير إلا بتغيير الجبلّة ذاتها، وهو أمر محال، فالعنف يظلّ طبيعة مطبوعة في الإنسان، يحفظ بها حياته.
؟
5
ولكن ألسنا هنا بصدد تسويغ العنف انطلاقاً من فرضية «الطبيعة البشرية» العدوانية بطبعها على النمط الهوبزي
بلى، ولكن بشرط أن نميز بين عنف يحفظ للإنسان حياته، ويمنحه صلابة وجودية تمكنه من معالجة هشاشته الأنطولوجية، وعنف
فائضعن هذه الحاجة، متعدياً إلى الآخر، متعدياً على حقه في إثبات الوجود، ساعياً إلى المغالبة والتواجه والهيمنة.
بيد أنّ المفارقة المدهشة هنا هي استحالة فصل ما اعتبرناه عنفاً حيويّاً (موجباً بيولوجياً) يحفظ البقاء، وعنفاً فائضاً (سالباً أخلاقياً)،
يندرج بدوره فيصراع البقاء، بوصفه يستدعي حضور الآخر في مشهد الحياة، حتى يكتسب البقاء مشهداً وشاهداً، أو خصيماً ومعترفاً.
هنا سيبلغ العنف مداه الأقصى: التواجه إلى حد الموت بين من يكتفي باعتماد العنف البيولوجي لحفظ بقائه (وفق مبدأ الكوناتيس
عند اسبنوزا)، ومن يتخطى درجة البقاء إلى درجة «حسن البقاء»، من خلال نيل شهادة الاعتراف بوجوده بوصفه وعياً حراً
Conatus
.
6
استطاع أن ينتصرعلى عطالة الكسل والجبن (هيغل)
يُضفي الإنسان ساعتها على وجوده معنى، ويقيم فوق
Intersubjectif
عندما يتشابك العنف البيولوجي المعطى بالعنف البينذاتي
هذا المعنى حضارته ومؤسساته وسياساته. هل يعني هذا أنّ العنف متى تعدّى نطاقنا البيولوجي إلى النطاق البينذاتي، انقلب من عنف
4 . Max Weber, Le savant et le politique, Paris, Union générale d’édition, 1963, p.111.
5.Thomas Hobbes, leviathan, Traduction, Tricaud, Paris, Sirey, 1971, p. 175.
ـ يقول هيغل: «لمّا كان الوعي بالذات وجوداً بسيطاً مساوياً لنفسه، فإنه ينفي من الذات كلّ ماهو آخر(....)، إنه إذن موضوع عارض موسوم بالسلبية. بيد أنّ الآخر
6
هو بدوره وعي بالذات منكفئ على نفسه. وعلى هذا النحو يغدو كلّ منهما في نظر الآخر كما لو كان موضوعاً ما. هذان الوعيان لم ينجزا بعد، أحدهما بالنسبة إلى
الآخر حركة التجريد المطلق، وهي حركة تقوم على اجتثاث كلّ وجود مباشر من الذات. يتحدد سلوك كلا الوعيين بالذات من خلال إثبات كلّ منهما ذاته لنفسه، ومن
خلال إثبات أحدهما ذاته للآخر بواسطة الصراع من أجل الحياة والموت. ولا مناص لهما عن خوض هذا الصراع، إذ يتوجب على كلّ منهما أن يرتقي بيقينه بالوجود
لذاته إلى الحقيقة الكامنة في الآخر. فإنما المغامرة بالحياة هي السبيل إلى الحفاظ على الحرية، وهي السبيل إلى البرهنة على أنّ ماهية الوعي بالذات ليست الوجود
ولا هي انغماسه في سعة مدى الحياة. فالفرد الذي لم يجازف بحياته قد ينتزع الاعتراف به شخصاً. غير أنه لم يبلغ حقيقة هذا الاعتراف باعتباره اعتراف وعي بالذات
مستقلاً».
G.W.F. Hegel, La phénoménologie de l’esprit (18061807-), t.1, trad. J. Hyppolite, éd. Aubier Montaigne, 1941, pp. 161 - 162.




